المنشور

الحاجة إلى العدالة الانتقالية… والاعتراف بالأخطاء

تهدف العدالة الانتقاليّة، في جوهرها، إلى فتح آفاق الاستقرار، ولا يمكن
أن يتم ذلك بسواعد من اتهموا بارتكاب جرائم بحق مجتمعاتهم، فهؤلاء يعيشون
«الوهم» ويعانون من عقدة القتل التي تبقى تلاحقهم حتى آخر رمق من حياتهم.
ولا يمكن أن ينفتحوا على الطرف الآخر مادام الإرهاب والقتل وسيلة للخلاص
بدلاً من مصالحة قد تهدد مصالح من يعيش على آلام وبؤس الآخرين.

وهو
ما ينطبق على الدول التي لديها ماضٍ من العنف والقمع، إذ يشكّل تطبيق
إجراءات البحث عن الحقيقة، والعدالة الجنائيّة، وجبر الضرر، وإصلاح
المؤسسات، أساساً لإرساء ثقافة العدالة واحترام سيادة القانون.

ولو
نظرنا إلى منطقتنا العربية، فهي لا تخلو من ماض وحاضر مليء بالقمع والعنف،
وهو ما يسهم بأي شكل من الإشكال في مقاومة الرأي الآخر الذي قد يهدد أركان
الأنظمة الدكتاتورية التي لا تقبل بالديمقراطية كحل، ولكن ترى في ذلك نهاية
لسلطتها. والمجتمعات العربية تمتلك عبر مراحلها التاريخية وصولاً إلى
اليوم، إرثاً كبيراً من انتهاكات حقوق الإنسان، والإبادة الجماعية، أو
أشكال أخرى من الانتهاكات تشمل جرائم ضد الإنسانية أو الحرب الأهلية.

وحتى
تبدأ المجتمعات بإعادة البناء الاجتماعي، المصالحة الوطنية، تأسيس لجان
الحقيقة، تعويض الضحايا، وإصلاح مؤسسات الدولة العامة التي غالباً ما ترتبط
بها الشبهات أثناء النزاعات الأهلية الداخلية المسلحة، مثل الشرطة وقوى
الأمن والجيش، فلابد من اعتراف بواقع المشكلة وتقبل التغيير والحل المتوقع
لوقف سلسلة الانتهاكات والنزاع المستمر بين قوى المعارضة والحكومة.

واليوم
تبدو تونس نموذجاً للمنطقة العربية في جانب تفعيل مرحلة العدالة
الانتقالية بعد ثورتها العام 2011، وتواجه تحديات كثيرة لكونها تمر بامتحان
صعب لشكل ومستقبل نظامها السياسي الذي قد ينجح أو يفشل. وهو أمرٌ مرهون
ومتروك للتونسيين ونظرتهم لواقع متطلباتهم السياسية والمعيشية، إذ لايزال
المسار في بدايته، فقد أظهرت تونس أيضاً التزاماً باتخاذ عدد من الإجراءات
الانتقاليّة، من تحقيقات ومحاكمات، ولجان تحقيق في قضايا الفساد وانتهاكات
حقوق الإنسان، وإجراءات لتعويض الضحايا، وذلك لإعادة الثقة بالحكومة وسيادة
القانون. وتشكّل العدالة ركيزة لأيّ عمليّة انتقاليّة لأنها الاستثمار
الحقيقي في تأسيس مجتمع مسالم.

تلك كانت الرسالة الأساسيّة في حلقة
النقاش غير الرسميّة التي استضافها المركز الدولي للعدالة الانتقاليّة
والبعثتان الدائمتان لسويسرا وتونس في مايو/ أيار الماضي، بشأن العلاقة
بين العدالة الانتقالية وسيادة القانون. ففي مداخلته، حدّد رئيس المركز
الدولي للعدالة الانتقالية ديفيد تولبرت الدور المركزي الّذي يجب على
العدالة الانتقالية الاضطلاع به في الحوارات عن سيادة القانون. في مجتمع
اختبر انتهاكات واسعة النطاق لحقوق الإنسان، «يجب التعامل مع الماضي،
والاعتراف بالضحايا، وتبيان الحقيقة، وإصلاح المؤسسات»، على حدّ قوله. فإذا
لم يحصل ذلك، ما من أساس لسيادة القانون.

وأضاف تولبرت قائلاً إنّه
«حيث تفشل المجتمعات في معالجة الماضي، يرتفع احتمال تجدد أعمال العنف
والانتهاكات. في مقابل ذلك، نجد أيضاً أمثلة عن بلدان خرجت من النزاعات أو
من الأنظمة القمعيّة وأنشأت أنظمة قويّة لسيادة القانون. في هذا الصدد،
تُعتبر الأرجنتين على سبيل المثال واحدةً من حالات عديدة أسست فيها عملية
منسقة للعدالة الانتقاليّة لاستتباب الأمن وأنظمة سيادة القانون».

من
هنا لابد من الإشارة – وبحسب المراقبين الدوليين – الى ان نظام العدالة
الجنائيّة الدولية في تطبيق العدالة وممارسات سيادة القانون على المستوى
الوطني يستند بالدرجة الأولى إلى تطبيق العدالة وممارسات سيادة القانون على
المستوى الوطني. أما البلدان التي تواجه إرثًا من الفظائع الجماعية، فلا
يتمّ فيها تحقيق ذلك من خلال العدالة الجنائيّة، ولكن بتدابير أخرى للعدالة
الانتقاليّة التي تشكّل قاعدة لتحقيق المحاسبة، مثل بعثات تقصّي الحقائق
ولجان الحقيقة. وهذا لن يتحقق إلا عندما تعترف الأنظمة بأخطائها، وإن لم
تعترف فإن الشعوب هي من تحاسب وتقرر في نهاية الأمر تبعاً لطبيعة مطالبها
وحراكها السياسي.

ريم خليفة

صحيفة الوسط البحرينية