المنشور

« حــداثة » بيروت


من كتبوا في تاريخ الحداثة العربية رأوا أن حملة نابليون على مصر هي الصدمة التي أطلقت شرارة الوعي العربي، وآخرون عزوا الأمر إلى مشروع محمد علي باشا في تأسيس دولة قوية مستقلة عن السلطنة العثمانية ومنافسة للدول العظمى الاستعمارية. لكن الثابت أن العقل العربي بدأ بطرح إشكالية النهضة عبر ممثلها الأول رفاعة رافع الطهطاوي، العائد من بعثة عملية إلى فرنسا استمرت سبع سنوات، لينادي بنشر التعليم وفتح المدارس، وبخاصة في القرى والأرياف، ويطالب بتعليم البنات وتحرر المرأة، ووجدت أطروحاته امتداداً لها في كتابات وآراء قاسم أمين ومحمد عبده وجمال الدين الأفغاني واللبنانيين فرح أنطون وشبلي شميل وعبد الرحمن الكواكبي الآتي من حلب السورية، وصولاً إلى طه حسين.
 
لكن هل يمكن الحديث عن تاريخ الحداثة العربية دون الوقوف على الدور التنويري المهم الذي أدته مدينة بيروت في صنع ميراث هذه الحداثة، ليس بصفتها مطبعة العرب، حيث كان لمناخ الانفتاح وحرية النشر دوره الكبير في تعميم المؤلفات والكتب الحاملة لأفكار الحداثة، وإصدار الدوريات التي كانت رافعة للمدارس الحديثة في الشعر والنقد وفي الفكر، وإنما أيضاً لأن بيروت، ولبنان عامة، قدما للعرب وجوهاً بارزة في التجديد الثقافي والفكري والفني.
 
الباحث كمال ديب وضع مؤلفاً، يمكن وصفه بأنه بانورامي، عن «بيروت والحداثة»، وتحت عنوان فرعي لافت:»الثقافة والهوية من جبران إلى فيروز»، تتبع فيه الدور الذي أدته بيروت كمصهر مهم للحداثة العربية عامة، لا اللبنانية وحدها، لذلك فان حديثه لم يقتصر على عمالقة الإبداع في لبنان، وإنما شمل أيضا أولئك المبدعين العرب الذين عاشوا فيها، ومكنتهم بيئتها المنفتحة من تقديم أفضل ما لديهم من طاقات في صوغ المشهد الفكري والثقافي الحداثي العربي.
 
فبالإضافة إلى الأسماء اللبنانية التي جرى الحديث عنها بين دفتي الكتاب نجد أسماء هشام شرابي وادوارد سعيد ونزار قباني ومحمود درويش وأدونيس، للوقوف على ما فعلته بيروت في هؤلاء، وعلى الأثر الذي تركوه هم أنفسهم في سياقها الثقافي والإبداعي، لكن المؤلف يولي عناية خاصة لتتبع دور المبدعين اللبنانيين أنفسهم، بدءاً من تلك المقارنة الجديرة بالعناية التي يعقدها بين سيرة اللبناني المهاجر جبران خليل جبران وبين سيرة الأديب الألماني هرمان هيسه مؤلف «سدهارتا» و»الكرات الزجاجية» وسواهما، مروراً بحديثه عن ميخائيل نعيمة والتراث الشعري والموسيقي والغنائي للأخوين رحباني وفيروز، وعن شعر خليل حاوي ونهايته المفجعة منتحراً احتجاجاً على فقدان بيروت مجدها الذي كان بعد استباحتها بالميليشيات، وبعد أن صحا على الواقع المهول لاجتياحها من قوات الاحتلال «الإسرائيلي»، منتهياً بالتجربة الموسيقية والمسرحية لزياد الرحباني، وبالتجارب السينمائية اللبنانية الجديدة.
 
المؤلف لبناني يعيش ويعمل في كندا، يُعيد اكتشاف وطنه، ولكنه يفعل أكثر من ذلك، لأنه يحملنا على الاستنتاج بأن حامل الحداثة في لبنان يتمثل في مرتكزين، الأول هو البعد الوطني اللبناني الذي تصدع باستشراء الغلواء المذهبية والطائفية التي مزقت النسيج الوطني، والبعد العروبي الديمقراطي الذي تصدع هو الآخر تحت تأثير نمو التيارات المحافظة التي استهدفت الحداثة كفكرة وكنمط للمعيش. لعل الكتاب حنين لبيروت التي كانت، لعله دعوة لاستعادة دور مفتقد لها!