المنشور

البسيط والمُعـقـد


كل ما هو منجز يبدو بسيطاً، أو هكذا يخيل إلينا، لأننا لا نتذكر حجم العمل المبذول فيه، ولا التفاصيل المعقدة الداخلة في تركيبه. الحال نفسها تصح على الأداء الماهر للرياضي أو الموسيقي أو الفنان التشكيلي، فنحن نستمتع بتفوق هؤلاء وبحسن صنيعهم، الذي أتوه بسلاسة وربما بتلقائية، تجعلنا لا نلاحظ مقدار المراس والتدريب والمعرفة الكامنة في ما يؤدون، فما يبدو لنا تلقائيا وسلساً وحتى سهلاً استغرق من هؤلاء وقتاً وجهداً ومراساً وخبرة وتدريباً.
 
يُحكى أن رجلاً وجد نفسه ذات مرة وهو مسافر في القطار في مقصورة واحدة مع الفنان العالمي الشهير بابلو بيكاسو، وما أن تيقن الرجل من أن رفيقه في الرحلة هو بيكاسو حتى قرر انتهاز هذه الفرصة الذهبية التي لن تتكرر فطلب منه أن يرسم له «بورتريه». ويبدو أن بيكاسو لم يناقش طويلاً في الأمر، وشرع في تنفيذ الطلب، وما هي إلا دقائق حتى دفع له بورقة عليها «بورتريه» الرجل بريشته. حدق الرجل في الرسم سعيداً بما يرى، ثم سأل بيكاسو بامتنان: كم تريدني أن أدفع مقابل ما فعلت؟ أجاب الفنان على الفور: عشرة آلاف دولار. دُهش الرجل وقال متلعثماً: كل هذا المبلغ لقاء خمس دقائق من العمل، فرد عليه بيكاسو: نعم خمس دقائق ولكن ضف إليها عقوداً من الخبرة.
 
حين يستعصي علينا فهم قصيدة أو لوحة فنية نُسارع إلى القول إنها مُعقدة وغامضة، دون أن نتبصر في حال آخرين يجدون متعة في تذوق القصائد أو اللوحات نفسها، لأن مخزونهم من الثقافة، وحواسهم المُدربة على التذوق تجعل متعتهم أكبر بما يشاهدون أو يقرأون أو يسمعون. لعل هذا يُفسر لنا أن أعمالاً وروائع فنية لم تحظَ بالقبول في زمنها، عرفت في ما بعد رواجاً واقبالاً عليها، لأن مستوى التطور الذي بلغه الناس، ثقافةً ووعياً وذائقةً، جعل من العصي على الفهم مفهوماً، ومن المعقد بسيطاً.
 
ولو تأملنا في حال أطفالنا مع لعبهم الحديثة، لوجدنا ما يُدهش. إن طفلاً لم يتجاوز الخامسة من العمر قادر على فك وتركيب لُعب على درجة من التعقيد، بحكم المران والتكرار، الأمر الذي نبدو نحن الكبار عاجزين عن إتيانه. فأطفال اليوم، كما لاحظ أحد الكتاب المغاربة، «يتعاملون بلعب من الكيمياء والفيزياء، بالموجات والاهتزازات، بالضوء والصورة»، أي مع الأمور المعقدة ولكن ببساطة نحسدهم عليها، نحن من لعبنا في طفولتنا بالطين.
 
كل بسيط، إذاً، هو معقد، من حيث إنه ينطوي على مجموعة من التفاصيل البسيطة، فكل مجموعة من هذه التفاصيل تشكل في النهاية منظومة أو ظاهرة مُعقدة، لكنها ليست مُغلقة أو عصية على الإدراك، في ظروف وملابسات قابلة للتوفر. على الورق، وفي التنظير، تبدو كل الأمور بسيطة وقابلة للحل، لكنها في الواقع ليست كذلك أبداً، فالواقع أغنى من كل النظريات والتأويلات، فهل نفاجأ إذا ما أصاب الإخفاق الكثير من المشاريع الطموحة، لأن أصحابها لم يولِوا من العناية ما هو كاف لرؤية التضاريس والنتوءات الموجودة في الحياة، لكنها لا تظهر على الورق.


20 يونيو 2012