المنشور

من أي وجه نقارب غسان تويني؟


تحار من أي وجه من الوجوه تقارب شخصية إعلامية ودبلوماسية وسياسية بقامة غسان تويني الذي غادرنا للتو. فاسمه ارتبط بأكثر من حدث وبأكثر من اهتمام وخبرة. حسبه انه أدار طوال عقود صحيفة «النهار» التي يشهد لها المختلفون معها، قبل المتفقين، على أنها كانت مدرسة فريدة في الصحافة اللبنانية والعربية عامة، من حيث الحرفية والمهنية والمصداقية، والتي طورت لنفسها شخصية لا نظير لها في التحرير والإخراج والتبويب، وأن تؤدي رسالتها وسط حقل الألغام اللبناني المليء بالفخاخ السياسية والمذهبية، وأن تقدم لنا أسماء لامعة في دنيا الصحافة والفكر، بينها، مثلاً، الراحل، غيلة، ميشيل أبوجودة والشهيد سمير قصير.
 
«النهار» لم تكن صحيفة فحسب، إنما كانت مدرسة صحافية لا تشبه إلا نفسها، وكانت إلى ذلك مؤسسة للطباعة والنشر قدمت للقارئ العربي كُتباً وكتاباً يشهد لها ولهم، أي للكتب والكُتاب معاً، بالرصانة والموضوعية والثراء المعرفي. ووراء ذلك كان يقف عقل ببراعة عقل غسان تويني، الوطني اللبناني، الذي ذاد عن استقلال لبنان ووحدته واستعادة أراضيه من الاحتلال الإسرائيلي من موقعه كإعلامي وكدبلوماسي هو الذي مثلَّ لبنان في هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن، وكان وراء استصدار المجلس المذكور للقرار 425 الشهير حول سيادة لبنان على أراضيه، واليه تُنسب المقولة المدوية: «اتركوا شعبي يعيش في سلام»، في قبة هيئة الأمم المتحدة ، والتي جعل منها عنواناً لأحد كتبه.
 
رحل غسان الأرثوذكسي الذي تزوج من درزية، مؤكداً تجاوزه لأسوار المذاهب والطوائف، وأشهر أحد كُتاب الافتتاحيات الصحافية في لبنان والعالم العربي، التي كانت مجساً للمخاضات السياسية في البلد والمنطقة، مستنداً في ذلك على مهاراته الصحافية وعلى عمق تحليله وبعد نظره وشبكة علاقاته المحلية والدولية، التي تجعل من هذه الافتتاحية مؤشراً على المسارات المتوقعة للأوضاع.
 
هذا التألق في الحياة المهنية والدبلوماسية تجاور مع تراجيديا حياته الشخصية هو الذي فقد زوجته ناديا مبكراً، ثم ابنته التي ماتت طفلة بالسرطان، وقضى ابنه الأول في حادث سيارة بفرنسا، فيما ذهب ابنه جبران في اغتيال سياسي آثم دبرته عصابات القتل التي تضيق بالرأي المستقل، بالرأي الآخر.
 
غسان تويني نتاج لبنان التعددي، الديمقراطي، الذي تشكل من السجال الفكري والثقافي المنفتح على آفاق المعرفة الإنسانية والمدارس الحديثة في الصحافة والإعلام والفكر، لبنان حامل المشروع المستقبلي الذي داهمته غلواء الطوائف والمذاهب وتدخلات أنظمة الاستبداد العربي والإقليمي، التي قطعت مسار الحداثة في لبنان وفي المحيط كله، حينما أرادت أن تجعل من لبنان المنفتح، المتعدد، على صورتها الشمولية، الأحادية، فأدخلته في نفق الحروب الأهلية المستمرة والمتقطعة، وحولته إلى ساحة تصفية للحسابات الإقليمية، في تناغمٍ مثير للريبة مع العدوانات الإسرائيلية المتواصلة عليه، والطامعة في مياهه وأراضيه.
 
قامة أخرى بعقل متقد تغيب في وقت تعز فيه مثل هذه القامات.
 
12 يونيو 2012