المنشور

الإعلام: ثقافة أم أداة توصيل ؟


علينا أن نتفق، أولاً، على ما نعنيه بالثقافة، وما نعني بالإعلام، لكي لا نجد أنفسنا في متاهة تعريفات الموضوعين، وليس هنا مقام استعراض المفاهيم المتعددة التي قدمت للثقافة، فذلك حديث أكاديمي يطول، وسنكتفي بتحديد ما نجده أكثر دقة واتساقاً مع حديثنا هذا، لنقول إننا أميل للنظر للثقافة بوصفها تلك المظلة الواسعة التي تتسع للتعبيرات الأدبية والفنية والمفاهيم وأشكال العيش والرموز المتعددة التي تميز شعباً عن شعب آخر.
 
ولا يجعلنا ذلك نغفل عن ملاحظة المفارقة الناجمة عن كون الثقافة تجمع في الآن ذاته بين الخصوصية والتعددية، فهي إذ تعي أوجه الفرادة الخاصة التي يمكن أن تميز ثقافة شعب عن ثقافة شعب آخر وثقافة أمة عن أخرى، فإنها في الآن ذاته قائمة على عدد محدود من القيم والمبادئ والأفكار المتشابهة، ولكنها تختلف في أشكال تجليها بين ثقافة وأخرى، وحضارة وأخرى.
 
وإذا انطلقنا من هذا التحديد للثقافة فإن المعضلة الأكبر ستنشأ عند الحديث عن الإعلام، فهل يجب النظر إليه على انه مجرد موصل أو ناقل أو حامل للثقافة، أم انه هو بحد ذاته ثقافة، أو شكل من أشكالها، وهذه إشكالية جدية تتصل بأي حديث يدور حول حدود وقدرات الإعلام في خدمة الثقافة. لأنه إذا اكتفينا بالنظر إلى الإعلام على انه مجرد خادم، أو لنقل في تعبير أكثر تهذيبا مجرد ناقل أو موصل فإن الأمر قد يعطي، ولو في حدود معينة، صك براءة للإعلام لأنه إنما ينقل ما هو متيسر في المجتمع من ثقافة، فهو لا يصنعها وإنما يوصلها فقط، كما توصل المطبعة الكتاب للقارئ، وبالتالي فانه ليس مسؤولاً عن مستوى جودتها أو رداءتها، فذلك ليس شأنه.
 
أبلغ تشبيه للفرق بين الإعلام والثقافة هو ذالك الذي قدمه د. مصطفى المصمودي حين قال: «إذا كانت أجهزة الثقافة بمنزلة الحرفي التقليدي كالنجار والحداد والنقاش يسعى إلى الكيف أكثر من الكم فإن أجهزة الإعلام تكون أشبه بالآلة الصانعة التي لا تعتبر إلا الكم انطلاقاً من نموذج قياس موحد.
 
يحثنا هذا على ملاحظة حقيقة أن الإعلام هو نمط من الثقافة، أو للدقة فإنه يقدم الثقافة الخاصة به إلى الجمهور، الثقافة التي تلاءم طبيعته، وهي طبيعة جرى تكريسها على أنها ثقافة الترفيه والتسلية، ورغم أن المعرفة ليست نقيض التسلية بالضرورة، ولكن الرأي استقر على أن مهمة التلفزيون هو أن يُسلي وأن ينأى عن المادة الدسمة التي تتطلب تركيزاً ذهنياً، وبالتالي فانه، من حيث أردنا أو لم نرد، ساهم في خلق نوع من «الثقافة «الشعبوية « الخفيفة، لا بل والاستهلاكية، أو ما بات يطلق عليه في دراسات علم الاجتماع الثقافي تعبير الثقافة الجماهيرية.
 
وعلى خلاف الثقافة التي يعد الاستثمار فيها تعويلا على المستقبل، لأنها لا تعطي اُكلها إلا بعد حين قد يطول، فإن خطورة الإعلام تكمن في راهنيته، لأنه يمتلك مقدرة هائلة في تكييف الأدمغة وفق مقتضيات اللحظة الراهنة، بما يلبي حاجات القوى الممسكة بمفاتيح القوة على أنواعها.