المنشور

حُبــورٌ مثل هذا !


ما الذي يجعل القارئ بعدما يفرغ من قراءة كتابة لكاتب ما أن يقول: إنها كتابة عادية، وما الذي يجعله يقول إزاء كتابة أخرى: إنها كتابة مختلفة، وما هو الشيء الذي يُضاف إلى الكتابة فيجعل منها كتابة مختلفة، ويغيب عنها فتصبح كتابة عادية؟ هل هو شيء أشبه بالبهارات الهندية أو الأعشاب الصينية التي تضاف للأكل فتكسبه طعماً مختلفاً مع أنه يتكون من المواد نفسها التي تتكون منها الوجبات الأخرى، لكنها لا تكتسب الطعم ذاته، هل يتصل الأمر بما يعرف: سر الطبخة، بالخلطة السرية للعناصر التي لا يتقنها سوى الكاتب الجيد، أم أن الأمر يتصل بروح الكتابة، بماء الحياة الذي يدب في نسغها.
 
كيف يمكن لبيت شعري للمتنبي أو حوارية صغيرة لشكسبير أو مقطع شعري لبوشكين أن يدوخ بنا وكيف تعجز قصيدة عصماء عن أن تهز فينا وتراً أو تحرك عصباً؟! إن الأمر يتصل بما أريد أن ندعوه روح الكتابة، ولا نظنها مفصولة عن روح الكاتب المبثوثة أو المفروشة في كتابته، يمكن للكاتب أن يزين كتابته بكل ألوان البديع وزخرف الكلام، فتقرأ ما كتب لتجد فيه ذوق سيئ لرجل أراد أن يؤثث بيته الجديد بأثاث غالٍ فاخر من كل الألوان التي لا يجمع بينها جامع ولا تنسيق.
 
روح الكتابة هي روح الكاتب في اعترافاته وتدفقاته الوجدانية التي تنساب أمامنا ونحن نطالع نصه، يمكن لكتابة تعالج موضوعات مصنفة تقليدياً أنها موضوعات جاف أن تحمل ذاك الدفق النفسي الذي يجعل منها كتابة مختلفة، جديرة بأن تقرأ وبأن تمنح قارئها متعة وفائدة. تبدو الكتابة بلا روح عندما لا تغور داخل النفس، ولا تلامس الوتر الرهيف فيها. وتبدو الكتابة مختلفة حين تغوص في أعماق الروح، في ردهاتها العميقة التي لا يبلغها سوى قلة.
 
ينصحنا فريدريك نيتشه بالتالي: عندما نقرأ لكاتبٍ يتسم أسلوبه بالاقتضاب الخاطف وبالهدوء والنضج بأن نتوقف أمامه ملياً، بأن نقيم عيدا طويلا وسط الصحراء، ذلك أن حبورا مماثلا لهذا الذي يبعثه هذا الكاتب في نفوسنا لن يقع لفترة طويلة. هذه النصيحة تصح على كل كاتبٍ مفكر مثله. العودة إليه لا تبعث على الملل، وفي كل مرة نعود إليه ونقرأ ذلك الإيجاز والتكثيف المدهش الأشبه بالحكم أو الأقوال المأثورة نُصاب بذلك الاهتزاز الناجم عن ضربات فوق رؤوسنا كما كان هو نفسه قد وصف الكتابات المميزة التي تصيبنا بالدوران، أو تلك التي تحطم الجليد المتجمد دواخلنا بفأس كما كان كافكا قد قال مرة.
 
يمكن لعبارة ما مأخوذة بشكل منفرد أن تكون جيدة، قوية، لأنه ربما تكون قد وجدت وحدها سياقا عندما انهمرت على الكاتب أولى اشراقات الفكر، والفكرة العميقة التي تقال بسطحية تكف عن أن تكون عميقة وهي تصل للقارئ، لأنك إذ تصحح الأسلوب فإنما تقوم أساسا بتصحيح الفكرة.
 
7 يونيو 2012