المنشور

الوقت العربي والوقت الياباني


سعر الدقيقة مرتفع جدا في اليابان، لدرجة أن أحدا لا يستطيع تضييعها، والشخص الذي يصل متأخرا عن موعده خمس عشرة دقيقة شخص مشكوك في مصداقيته. هذه واحدة من مجموعة خلاصات ذهبية جاءت بها فاطمة المرنيسي، النسوية المغربية الشهيرة من زيارة لها لليابان. ونحن نعرف المرنيسي بوصفها كاتبة في الشأن النسوي، لكننا هنا إزاء حديث آخر لها، فقد ذهبت لليابان لأنها تريد أن تعرف كيف أن مجتمعا تقليديا، يفترض انه مثل مجتمعاتنا، ليس منتسبا للحضارة البيضاء، يمكنه أن ينتج الكمبيوترات.
 
لذا فإنها لبت دعوة من هيئة اسمها: «مؤسسة اليابان»، كي تجد جوابا عن السؤال الذي أرقها، وهو بالمناسبة ليس ببعيد عن الصيغة الشهيرة التي صاغها سؤالا في حينه الإمام محمد عبده حول: «لماذا تقدم العرب وتأخر المسلمون»، مع فروق طفيفة في التفاصيل وفي الوجهة الجغرافية التي يمكن للسؤال أن يوجه صوبها. قبل شهرين من السفر نقل لها المسؤولون في المؤسسة المذكورة التعليمات كاملة: حين تهبط في مطار طوكيو تذهب وتقف أمام المقصورة رقم 14 إلى أقصى يسار الدائرة، هناك سيكون شخص في انتظارها، ولأنها عربية، فقد تساءلت بينها وبين نفسها: من سيتذكر هذا الكلام بعد شهرين، لكنها ما أن وصلت إلى المقصورة المعنية حتى وجدت الرجل الذي حدثوها عنه يهتف في وجهها «صباح الخير.. بروفيسور مرنيسي.. هل كانت الرحلة جيدة». وأضاف: «هناك سيارة في انتظارك.. وهذا برنامجك للأربعة عشر يوما المقبلة»!
 
لدينا، نحن العرب، الكثير من الوقت كما تذهب المرنيسي لكننا نمضي نصفه في انتظار أن يأتي الآخرون، والنصف الثاني بالتساؤل عما سنفعله، أما اليابانيون فيبدون وكأنهم يمضون وقتهم يجري واحدهم وراء الآخر، سواء في القطارات أو على الأرصفة أو في الطائرات. نقول إنها لم تر يابانيين منصرفين إلى الثرثرة باطمئنان أو يتهادون باتجاه الممرات، ولم تجد جوابا عن السؤال عما إذا كان الركض من دون توقف عندهم مرضا منذ الولادة أو ارتكاسا أنشئوا عليه قبل المراهقة وبعدها. أيا كان الأمر فان الياباني الصغير ليس طفلا كأطفالنا، فأمه والقيمون على تربيته يسكنهم هاجس واحد، وهو أن يجعلوا منه لاعب أرقام وعمليات حسابية، وهو ما يفسر أن 75% من الشباب اليابانيين يردون بشكل صحيح على أسئلة الرياضيات، مقابل 48% من الولايات المتحدة و36% من فرنسا.
 
وتأتي اليابان في المقدمة بالنسبة لعدد البحاثة والمهندسين بين السكان العاملين: 7%، أي ضعف ما هو عليه الوضع في دولة أوروبية متقدمة مثل فرنسا. على كل منا، لمن هم في جيل فاطمة المرنيسي أو بعده، أن يتذكر ما الذي فعله بين الثالثة أو الخامسة من طفولته «غير اللعب فوق المساطب وتسلق الأشجار»؟!. لا شيء يذكر. في اليابان يملك الطفل من سن الثالثة برنامجا مكثفا للغاية: بعد الروضة عليه أن يذهب إلى مدرسة اسمها «جوكو»، من أجل ساعات إضافية مكلفة جدا لعائلته، التي تدفع ما يوازي المبلغ الذي ندفعه لولد في الرابعة عشرة من عمره لقاء أربعة دروس إضافية مسائية في الأسبوع!
لمن يعنيهم الأمر: مرحلة ما قبل المدرسة، هي أحد أسرار النهضة اليابانية!


5 يونيو 2012