المنشور

قارب نجاة “القارة العجوز”


تكشف الصراعات الكواليسية والعلنية الدائرة داخل البيت الأقتصادي الأوروبي (الاتحاد الاوروبي) بشأن كيفية التعامل مع خطورة أوضاع السيولة والتدفقات النقدية الداخلية للقطاع المصرفي ومع أزمة الديون السيادية ومع الأزمة المالية اليونانية، والجدل المحتدم يوميا وعلانيةً عبر أجهزة الميديا الأوروبية بشأنها، تكشف عن أزمة في غاية العمق لم يتعرض لها الاتحاد الاوروبي في تاريخه منذ تأسيس نواته الأولى “الجماعة الاوروبية للفحم والصلب” عام 1951 (ألمانيا الغربية، فرنسا، ايطاليا ودول بينيلوكس : بلجيكا وهولندا ولوكسمبورغ)  ثم الاتحاد الأووروبي نفسه في عام 1992 بموجب معاهدة ماستريخت.
 
ويبدو ان ما أراده الاوروبيون عونا لهم لتعظيم استفادتهم من العمليات التكاملية والاندماجية لاقتصاداتهم المحلية وتسريع سباق تحولهم الى القوة الاقتصادية العظمى الاولى بلا منازع في العالم، وذلك باطلاق العملة الاوروبية الموحدة في عام 1999، قد أصبح “فرعونا” لهم!
 
فلقد كان لانشاء العملة لاوروبية الموحدة متطلبات باهظة التكاليف بالنسبة لكافة الدول الاعضاء في الاتحاد الاوروبي التي اختارت الانضمام الى منطقة اليورو وعددها 17 دولة (هي المانيا، فرنسا، ايطاليا، هولندا، اسبانيا، البرتغال، بلجيكا، النمسا، قبرص، استونيا، فنلندا، اليونان، ايرلندا، لوكسمبورغ، مالطا، سلوفاكيا، وسلوفينيا) من أصل مجموع دول الاتحاد السبع والعشرين، خصوصا بالنسبة للدول ذات الطاقات الاقتصادية الأقل احتمالا لاستمرار الالتزام بمعايير الوحدة النقدية الاوروبية، والتي اتضح ان مرحلة تأهيلها للتمتع بكامل حقوق وامتيازات عضوية الاتحاد الأوروبي، لم تكن كافية لانضاج اقتصاداتها القومية بحيث تستأهل نفس المرتبة التي تتمتع بها المانيا وهولندا على سبيل المثال. بل ان قصر عضوية الوحدة النقدية الأوروبية على دول بعينها لديها ما تلتزم به للوفاء بمتطلبات هذه العضوية، قد خلق نادٍ صغير داخل النادي الاوروبي الأكبر (دولة داخل دولة)، الأول مكتمل اركان الوحدة: الأساس أي الاقتصاد والسقف أي النقد، والثاني مقتصر على الجانب الاقتصادي التكاملي.
 
ويبدو ان الجيل الجديد (الجيل الرابع والجيل الخامس) من القادة الاوروبيين متعجلين في خطواتهم “الوحدوية” بما يغاير قليلا المسار التاريخي الاقتصادي المتأني والمتثبت الذي اتبعه القادة الأوروبيون الأوائل المؤسسون لقواعد ودعائم البنية التحتية المؤسسية والتشريعية للبيت الأوروبي الجامع. فلقد استغرق وقت ارساء قاعدة انطلاق السوق الاوروبية المشتركة  (European Common Market) الممهدة لقيام السوق الاوروبية الموحدة (European Single Market)، حوالي سبع سنوات. كما كانت عملية توسيع الكيان الأوروبي بقبول اعضاء جدد، محدودة وضيقة للغاية. فقد كانت معايير القبول اقتصادية صارمة. أما وقد انهارت النظم الاشتراكية في شرق ووسط أوروبا فقد كان التحاق بلدانها بالاتحاد الاوروبي زرافات زرافات..بدواعي سياسية أكثر منها محفزات اقتصادية. فتحول الاتحاد الاوروبي الى تجمع لدول متفاوتة القدرات والامكانيات، وهو ما اتضح وسيتضح مع ظهور أولى علائم فشل كل برامج الانقاذ والعلاج التي عقدها الكبار في الاتحاد الاور وبي لانقاذ اليونان وبقية المجموعة التي فاخر بها الاتحاد الاوروبي ومنها ايرلندا واتضح انها من عبر التاريخ الاقتصادي البليغة والجديرة بالدراسة فيما خص تمويلها للنمو التوسعي بالاستدانة والتي يجب ان تحفظها الدول النامية والدول الصاعدة لجهة المخاطر الكارثية التي ينطوي عليها التمادي والاسراف في ممارسة ذلكم النوع من النمو التوسعي بواسطة الاستدانة.
 
الآن وقد بدأ “المركب الاوروبي” بحمله الثقيل (27 دولة) تتقاذفه الأمواج، بدأت تراود البعض، بمن فيهم الكبار، التفكير في خفض الحمولة، بالتخفف منها قليلا وذلك بالتخلص من اليونان ومشاكل مديونيتها وأزمة نموذها الاقتصادي المعتل “بالمرض الهولندي”. ولكن هذا الحل اذا ما نُفذ فان سبحته ستكر لتتبع اليونان بعد ذلك دول هي الأخرى واقعة في حالة اعسار مالي ليس ببعيد عن المأزق اليوناني. بالأمس، على سبيل المثال لا الحصر، تقدمت الحكومة الايطالية باقتراح للبرلمان لرفع سن التقاعد الى 65 و70 سنة كجزء من حزمة اجراءات ترمي الى خفض جبل النفقات والمديونية العامة، علما بأن ايطاليا تحل ثانيا في منطقة اليورو بعد اليونان من حيث نسبة الدين العام الى اجمالي الناتج المحلي (بلغت 116% في عام 2010).
 
حتى اذا ما حدث ذلك، أي الاحتكام الى عقلية الخلاص الفردي، فان الغرق سيكون مصير جميع من هم في القارب الاوروبي. فهم اما أن ينهضوا معا ويتجاوزوا الخطر الذي يهدد كيانهم الاتحادي واما أن يغرقوا جميعا، وعندها سوف يسحبون معهم بقية العالم!
 
ولعل هذا هو بالضبط ما يستنتجه المرء من سخرية صحيفة “فاينانشال تايمز” (الاثنين 2 نيسان/ابريل 2012) من توافق وزراء مالية الاتحاد الاوروبي في اجتماعهم في الثلاثين من مارس الماضي على تعلية ما أسمته الصحيفة بـ”جدار الصد الناري” (Firewall)، وهو عبارة عن صندوق انقاذ مالي، بقيمة 500 مليار دولار ستكون متوفرة منذ اليوم الأول لاندلاع أزمة مالية جديدة. حيث اعتبرت الصحيفة ان هذا الصندوق الافتراضي بالكاد يُوفِّي الحاجة لتغطية الدفعة الثانية من برنامج انقاذ البرتغال وايرلندا والدفعة الثالثة من برنامج انقاذ اليونان وربما الدفعة الاولى والثانية من برنامج انقاذ اسبانيا. واذا ما وقعت اسبانيا في ركود عميق على سبيل المثال، وهو ما تتوقعه الصحيفة، فليس هناك ما يمكن تقديمه لها، واذا ما حدث ذلك فان مستوى المديونية سيرتفع وسيضع ذلك ضغطا كبيرا على كل من ايطاليا وبلجيكا.
 
أخيرا كيف يمكن تفسير اضطرار اضخم اقتصاد في العالم (لجهة اجمالي قيمة الناتج المحلي للاتحاد الأوروبي) لطلب المعونة المالية من صندوق النقد الدولي للمساهمة في دعم آلية الاستقرار (المالي) الاوروبية (European Stability Mechanism)، بل وحتى من مجموعة العشرين (G20) ؟