المنشور

مجتمعات قـلقـة


استوقفني مقال صغير، ولكنه غاية في العمق، للمفكر المغربي عبدالكبير الخطيبي، كُتب في الأصل بالفرنسية وعرَّبه فريد الزاهي تحت عنوان: «صورة المغربي». ينطوي المقال على تحليل لشخصية المواطن المغربي البسيط، من وجهة نظر مفكر يشتغل في حقول عدة بينها علم الاجتماع والفلسفة وعلم السياسة، وتحليله هذا منصبٌ على ما أدت إليه صدمة الحداثة من ارتجاج وحيرة بالغة في سلوك مجتمع اعتاد توازناً مُعيناً، تعرض لاختراق مساره المألوف. ويُقدم المقال مفاتيح مُفيدة في معرفة خصائص المجتمعات المتحولة، وهي سمة تنطبق على مجتمعاتنا العربية كافة ومن دون استثناء، حتى لو كان الأمر بنسب مختلفة، فإن الجوهر يظل واحداً.
 
يسوق الخطيبي مثالاً على ما يقول في علاقة المواطن في بلاده مع شيء نتعامل معه كل يوم هو الإشارة المرورية، حيث يُلاحِظ أن المواطن إن لم يتجاوز الضوء الأحمر، وهي ظاهرة مألوفة في مجتمعاتنا، فإنه يتوقف تاركاً إشارة الضوء خلفه. برأيه أن الأمر ينطوي على حيلة بصرية تكمن في عدم رؤية القانون وجهاً لوجه، ولذلك يكون احترام القانون وخرقه متواشجين في النظرة نفسها والحركة نفسها، في رغبة واضحة لمحو وتعطيل الحدود بينهما.
 
لا أعرف لماذا حملني هذا المقال على تذكّر المقاربات العميقة التي جاء بها عالم الاجتماع الفذ علي الوردي وهو يحلل طبيعة المجتمع في بلده العراق، وسلوك الإنسان فيه. على مقربةٍ من تحليل الخطيبي نجد الوردي يتحدث عما يُسميه: «الطاعة والأُمْرة»، في إشارة إلى النفور من الأوامر ومن الطاعة القسرية لها، ومن الميل إلى الزعامة، الذي تحدث عنه ابن خلدون مطولاً في المقدمة، وهو ميل يجد تعبيراً له في المثل البدوي القائل: «الأمارة ولو على الحجارة»، وهو، حسب ابن خلدون، السبب الذي أدى الى فشل العرب القادمين من الصحراء في إدارة البلدان المتحضرة التي حكموها، حيث أدى تعدد الزعماء وتنافسهم إلى سقوط سلطتهم في أكثر من مكان.
 
عودةٌ إلى الحاضر، نجد أن في أطروحات الخطيبي والوردي وغيرها من أطروحات رصينة كتلك التي قام بها جلال أمين في كتابه: «ماذا جرى للمصريين»، مداخل ضرورية تُعين في التعرف إلى أسباب الكثير من مكامن الخلل في مجتمعاتنا، التي مازالت في المرحلة الحرجة لخلق التوازن المطلوب بين ما ورثتهُ من جينات في السلوك، وما هي مُجبرة على التعامل معه بفعل جبروت الحداثة ، فلا هي قادرة على التخلص من تلك الجينات والقطع مع السلوك الذي تأخذه اليها، ولا هي قادرة على أن تزج بنفسها في أتون الحداثة كلية مع ما يترتب على ذلك من اكلاف، لابد من دفعها، إن ارادت هذه المجتمعات تجاوز حالة القلق والتذبذب بين قطبين، أحدهما يجر بالقوة إلى الخلف والثاني لا يظهر ما هو لازم من حسم لجرها نحو الأمام. 
 



20 مايو 2012