المنشور

عن الندية الثقافية


يثير التنميط الثقافي للعالم، الرامي إلى تسييد ثقافة بعينها، وتقديمها على أنها ثقافة العالم كله هواجس قلقة كثيرة لدى المشتغلين في الحقل الثقافي. منذ عقود طوّر الفرنسيون مفهوم الاستثناء الثقافي، الذي، من خلاله، أرادوا حماية الثقافة من أن تتحول إلى سلعة، تشملها اتفاقيات التجارة الحرة. ومنذ سنوات تحاور اثنان من أقطاب الفكر العالمي المعاصر حول معضلات الحياة الراهنة وما تطرحه حضارة الإنسان الحديثة من تحديات وإشكالات.
 
اللافت في هذا الحوار أنه جرى بين مثقف وفنان غربي هو رينيه هويغ من فرنسا، وآخر شرقي، آسيوي، هو الياباني ديزاكو إيكيدا. وإذا كانت القواسم بين فرنسا واليابان كثيرة من حيث كونهما مجتمعين صناعيين أو ما بعد صناعيين، وان التقنية تدخل عمودياً وأفقياً في تفاصيل الحياة اليومية لشعبيهما، فإن الفوارق بينهما كثيرة أيضا فهما نتاج حضارتين وثقافتين مختلفتين وظروف تطور تاريخي مختلفة كذلك.
 
ولكن الرجلين اتفقا على أن الحضارة العالمية المعاصرة تعاني من أزمة شاملة، أزمة أصيلة وحقيقية لها أبعاد مادية ونفسية وأخلاقية، كأن العلم والتقنية هما خلاصة التقدم وحقيقته استوليا بانجازاتهما المذهلة على الانسان فحوّلاه الى آلة تنتج وتستهلك ففقد روحه وقلبه. وان أزمة بهذا الشمول تنعكس على العالم الروحي للإنسان وأشكال وطرائق التعبير عن هذه الروح، خاصة الفنون، بوصفها حاملة للمعنى الشعوري الواقع على تخوم الوعي واللاوعي لحظة تعبيره عن هذا الواقع المأزوم، حيث تتجلى هنا أحاسيس الضيق العميق من الثغرات والانحرافات التي ينطوي عليها عالم اليوم والرغبة في الفرار من الاختناق المادي الذي تدفع إليه الحضارة المعاصرة.
 
هذا الحوار المطول يذكر بحوار احدث منه دار بين ريجيس دوبريه وجان زيغلر والرجلان هنا أيضاً ينطلقان من أرضية واحدة، لكنها تحتمل تعدد وتنوع زوايا النظر، والمتحاوران مثقفان أيضا، في عداد أولئك الناس الذين لا يجيدون فعل شيء سوى إنتاج الرموز والأفكار والكلمات، غير ان هذه الأفكار تحتاج لما يجسدها كي تصبح موجودة.
 
وهنا أيضاً يتجلى الوعي بالأزمة الشاملة التي تلف العالم المعاصر. ولكن دوبريه وزيغلر يقتربان أكثر من الهواجس التي أثارتها الثورة المعلوماتية التي نقلتنا إلى عالم آخر بالمقدار الذي يصبح فيه السمعي والبصري هما قناة التأثير المباشر، برأي زيغلر فإن تقنية الصورة غريبة عن أخلاقية الذكاء التي تكمن برأيه في الحوار وفي التجريد، تكمن في الزمن الضروري الذي يستغرقه بناء التحليل المنطقي..
 
بيد ان الرجلين لا ينأيان عن الفكرة الأساس التي تتمحور حول ان المجتمع الراهن يعزز الشعور بالاغتراب لدى الانسان، ورغم انفتاح العالم على بعضه البعض وتداخل الثقافات واختزال المسافات فإن رائحة الانغلاق تفوح أساساً في تلك البلدان التي تبشر بالعالمية.
 
ربما آن الأوان لمضاعفة الجهود نحو صوغ ثقافة مضادة لتلك التي جعلت الغرب حتى الآن وصياً على الآخر زاعماً احتكار تمثيله، وإقصاء هذا الآخر، الذي هو نحن: مجتمعات الشرق أو أهل الجنوب كما نوصف، عبر شحذ آليات ديناميكية ثقافية جديدة لا لتشكل بديلاً لثقافة الآخر، فليس ثمة احد يشكل بديلاً لأحد حين يتصل الأمر بالثقافة، إنما لإبراز الندية الثقافية والحضارية التي تبرهن على أن في الشرق من الفاعلية الروحية ما هو ضروري لخلق التوازن الضروري نحو أنسنة الحضارة المعاصرة التي تذهب بعيداً في ماديتها واستهلاكيتها وفقرها الروحي، نحو حضارة ذات عقل وذات قلب في الآن نفسه.