المنشور

تركيا كما هي


في تاريخ الشعوب والأمم حقب زمنية مميزة، سواء بثقل ونوعية الحوادث والتقلبات والتحولات التي شهدتها، أو بعظم التأثير الذي تخلفه على سيرورة الحياة العامة واتجاهاتها وصيرورتها . 
  
 ويمكن القول بكل اطمئنان، إن الفترة التي شهدت صعود حزب العدالة والتنمية بزعامة رجب طيب أردوغان إلى السلطة في تركيا في العام 2002 (وحتى اليوم)، هي مرحلة تاريخية فاصلة في حياة الشعب التركي والبلاد التركية . وعطفاً على المنجزات الاقتصادية والاجتماعية الباهرة التي حققها حزب العدالة والتنمية لأفراد الشعب التركي (رفع دخل الفرد السنوي من ثلاثة آلاف دولار في العام 2002 إلى أحد عشر ألف دولار في العام ،2011 ورفع تركيا إلى مصاف الاقتصادات الصاعدة كسادس أقوى اقتصاد في أوروبا توليداً للنمو)، عطفاً على ذلك يمكن تفهم اندفاع البعض وحماستهم لتشبيه رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان برجل تركيا العظيم كمال أتاتورك . 
  
نعلم أن هذه المقارنة لا تصح قياساً إلى تاريخ ومآثر وإنجازات أتاتورك العابرة للأجيال ولموقعه ومكانته “الأسطورية” بين الأتراك كأب روحي للأمة التركية ومؤسس تركيا الحديثة . إنما السنوات الثماني التي قضاها أردوغان في إدارة دفة البلاد التركية، كانت بالفعل حافلة بالإنجازات التي لا يمكن لأحد نكرانها، بل إنها لم تكن حافلة فقط بالإنجازات وإنما أيضاً بالطموحات الكبرى وبالصخب السياسي والإعلامي الصدامي الذي وضع تركيا أكثر من مرة في مجابهات غير محمودة العواقب . 
   
بل لعلنا نزعم أن المقطع الأخير من العبارة الأخيرة ربما يكون قد صنع الفارق بين شخصية الفارس التي أراد أن يصنعها لنفسه أردوغان، والتي كادت تستقر في المنظومة المعرفية الراعية للكثيرين خارج تركيا، خصوصاً في جوارها العربي، وبين شخصية أتاتورك القيادية الكاريزمية الجسورة والواثقة الصانعة للتاريخ، وفي حالتنا تاريخ تركيا الحديث، فلقد أظهرت المجابهات التي خاضتها تركيا مع أكثر من جهة، مع “إسرائيل” على خلفية جريمة الاعتداء الوحشي والدامي “الإسرائيلي” على سفينة مرمرة التركية التي شاركت في حملة الحرية لكسر الحصار الإجرامي الذي تفرضه “إسرائيل” على قطاع غزة، ومع فرنسا على خلفية القانون الذي أقره البرلمان الفرنسي والذي يجرّم المتنكرين لجريمة إبادة الأرمن على أيدي الجيش التركي، ومع قبرص على خلفية التنقيب عن النفط والغاز في المياه الإقليمية القبرصية، حيث هدّد أردوغان الذي تحتل بلاده الجزء الشمالي من قبرص، بإرسال سفن ومعدات الاستكشاف عنوة إلى قواطع التنقيب البحرية القبرصية، وأخيراً وليس آخراً تصعيد المواجهة مع سوريا . لقد كشفت هذه “الاحتكاكات” السياسية والدبلوماسية، وجهاً آخر لشخصية رئيس الوزراء التركي، إذ أظهرته انفعالياً وبهلوانياً في بعض الأحيان، ما قلل من هيبة وبريق شخصيته وتأثيرها الكاريزمي الذي بدا عليه خلال السنوات الخمس الأولى من حكم حزب العدالة والتنمية . ويبدو أن الرجل كان يخفي تحت قشرة الإقدام والشجاعة والبراغماتية الإيجابية، شخصية أخرى هي إفراز ربما لخيلاء النفس وفرط الثقة بها التي كثيراً ما تزج بصاحبها في طور النزق والشطط ذي التبعات الثقيلة عادة على صاحبها وعلى من يسوسهم . 
  
 وهنالك جانب آخر ربما يكون قادة حزب العدالة والتنمية التركي قد نجحوا في إبعاده عن الأضواء، وهو ذلك المتعلق بأعمال القمع التي تمارسها الأجهزة الأمنية والعسكرية التركية بحق المعارضين، وخاصة منهم أبناء القومية الكردية . وليست الأخبار التي تم تهريبها سراً عن أطفال سجن بوزانتي التي اضطرت وسائل الإعلام التركية الرئيسة للتخلي عن خوفها من الحكومة قليلاً وتغطية أحداثها الرهيبة في العام الماضي، سوى غيض من فيض وسائل الترهيب والتخويف المخفية التي مازالت دولة الشرق الاستبدادية متمسكة بأهدابها كجزء من “تراثها التاريخي التليد” . وهي حادثة تعيد إلى الأذهان الدهاليز المرعبة للسجون التركية التي حاول فيلم “قطار الشرق السريع” أن يعرضها على العالم، وفيلم “بانكوك هيلتون” عن فظاعة السجون التايلندية . كما نجحوا في إشاعة ثقافة من هو ليس مع “حزب العدالة والتنمية” فهو مع عودة جنرالات الجيش ومع الانقلابات العسكرية . وفي هذا السياق أيضاً، فإن اللافت أن رئيس الوزراء التركي كثيراً ما بدا عليه التبرم والانزعاج حين يوجه إليه الصحافيون أسئلة بشأن المعتقلين السياسيين في تركيا، فهو لا يحبذ الحديث في هذا الموضوع إلا من نافذة إعادة تذكير السائل بفترة اعتقاله هو كناشط سياسي وقيادي في صفوف حزب العدالة والتنمية قبل وصوله إلى السلطة، مع أنه يتم اعتقال المئات من مناصري المعارضة دورياً من قبل الأجهزة الأمنية، وأن “اتحاد المحامين التقدميين” الذي يتوافر على 11 فرعاً في أنحاء تركيا، يقوم بتنظيم دورات تدريبية للناس على كيفية تعاملهم مع لحظة وفترة الاعتقال، وكيف يتصرفون حين يطرق رجال الأمن أجراس أبواب منازلهم في ساعات الفجر الأولى لإلقاء القبض عليهم . 
 
وحسبنا أنه من الطبيعي ألا يكون وقع هذه الوقائع على المبهورين ب “النموذج” التنموي التركي اللافت الذي أرساه حزب العدالة والتنمية، مستساغاً، وهو أمر نعزوه، على ما نزعم، إلى كوننا لا نكاد نفرق بعد بين الغرام والافتتان بالأشياء، والناس قبلها، وبين الاحترام المقرون بالنظرة النقدية الصارمة لهما .
 
 
11 مايو 2012