المنشور

كتاب يُشعل الروح


نعرف هيرمان هيسه بوصفه روائياً وشاعراً وكاتباً. قرأنا له في العربية العديد مما ترجم له، بما فيه روايته الشهيرة: «لعبة الذكريات الزجاجية»، التي نال عنها جائزة نوبل للآداب عام 1946، وله أيضاً صدرت: «ذئب البوادي» و«الطفل الموهوب» وأعمال أخرى، لكن في «تجوال» نحن بصدد علاقة خاصة حميمة يقيمها هذا الكاتب الفذ مع الأمكنة، فيحكي عنها بكل جلال الحنين الذي ينتاب الناس إزاء فقدهم هذه الأمكنة أو بعدهم عنها.
 
ثمة أمر أساسي في سيرة هيرمان هيسه يتصل باضطراره لمغادرة بلاده ألمانيا نظراً لانخراطه في نشاط احتجاجي على سياسة التسلط العسكري الألماني فترة الحرب العالمية الأولى، فاضطر إلى الهجرة الى سويسرا التي قرر الإقامة الدائمة فيها، حيث أمضى بقية حياته في شبه عزلة هناك حتى وفاته عام 1962.
 
هذا البعد عن الوطن أو الحرمان منه كانا كفيلين بأن يصبغا علاقة الكاتب بمرابع ذكرياته بطابع الحنين الجارف الذي يتجلى في نصوص هذا الكتاب، الذي لا يصف فيه مدناً أو قرى، بقدر ما يصف بيوتاً وشوارع وجسوراً وأشجاراً وسماء غائمة وأخرى صافية زرقاء. إنه بالضبط ذلك الوصف الذي يشعل الروح، يوقظها، ويستنفر الحواس، حواسنا نحن، كافة.
 
عن تلك الصلة الغامضة بين السماء الغائمة وبين الحزن، يقول: «لسوف يكون من المستحيل أن أحدد ما إذا كانت السماء الغائمة المزعجة بسكونها هي التي انعكست في روحي، ام انني كنت أقرأ صورة حياتي الداخلية منعكسة على صفحة السماء. تأتي أحيان تلتبس فيها الأمور تماماً، ولأن الحياة يوم لك ويوم عليك، فإن الكاتب حريص على أن يستمتع بكل لحظة هناء تهبها هذه الحياة له: «أعلم كم هو جميل هذا العالم، وكم يتبدى لعيني في هذه اللحظة أكثر جمالاً مما لعيون الآخرين. الألوان تمتزج بنعومة أكثر، النسائم تهب بغبطة أشد، والنور يرفرف برقة أشهى، وأعلم في الوقت ذاته أنني سأدفع ثمن هذه الهناءة بأيام قادمة من عمري تغدو فيها الحياة لا تطاق».
 
وعن بيت المزرعة يقول: «هذا هو المنزل الذي سأقول عنه وداعاً. لن يتسنى لأجل طويل رؤية منزل مثله، ها اني أرسم تخطيطاً للمنزل في دفتري، فيما عيناي تفارقان بأسى السقف الألماني، كل ما أحببت وما هو حميمي لدي، وأحس مجدداً بالحب العميق لكل ما في وطني، لأني مضطر إلى هجره».
 
لكن الكتاب مسكون بالحب للحياة الذي يرتقي في بعض صفحات الكتاب إلى مقام الفلسفة، التي تعي نقائض الحياة ومفارقاتها، نقائض الكائنات الجميلة من البشر ومفارقاتها: «ما من مركز لحياتي، ان حياتي لتتأرجح بين أقطاب عديدة، وأقطاب متعاكسة، توق الى الإقامة من جهة، وتوق إلى التجوال من جهة أخرى، رغبة في الوحدة والانعزال هنا، ونزعة الى الحب والمخالطة هناك… ان ما أسعى إليه هو أن أقبض في التأرجح الدائم بين عنف المتضادات، وأن أكون على أهبة الاستعداد حين تباغتني المعجزة، إن مطمحي هو أن أبقى بغير ما رضا، وأن أملك القدرة على تحمل كل هذا القلق». هيرمان هيسه، بهذه الكلمات المؤثرة، لا يكتب سيرته فحسب، بل يكتب سيرة الكثيرين منا.
 
10 مايو 2012