المنشور

في الفرق بين أتاتورك وبورقيبة


منذ أسابيع كتبت مقالاً هنا بعنوان «النموذج التركي لن يصبح عربياً»، خلصتُ فيها إلى أن تعميم النموذج التركي في البلدان التي شهدت تغييرات، مثل تونس ومصر، أمر غير ممكن، وفي الدعوة لمحاكاة النموذج التركي عودة إلى استنساخ تجربة نشأت وتطورت في سياقات ثقافية وسياسية أخرى، وإسقاطها على بيئات عربية مختلفة، لم تجتز التحولات التي شهدتها تركيا قبل أن يصل الإسلاميون الجدد إلى الحكم فيها، وفي مقدمة ذلك التراث العلماني الذي أرسى قواعده أتاتورك.
 
ومن دلائل ذلك أن الإسلاميين الأتراك كيفوا خطابهم السياسي والانتخابي على هذا الأساس حين أكدوا احترامهم والتزامهم بالطابع العلماني للدولة، وهو طابع لم يتحقق في أي بلد عربي آخر، رغم ما قد تشكله الحالة التونسية من استثناء في نطاق معين، وهذا ما كان راشد الغنوشي واعياً له، حين قال عشية انتخابات المجلس التأسيسي في تونس أن حركة النهضة التي يتزعمها ستأخذ بعين الاعتبار الطابع التعددي للمجتمع التونسي، لكن التجربة تكشف أن المسافة بين القول والفعل شاسعة.
 
وعلى صلة بهذا طالعت مقالاً لباحثة تركية، هي سبنيم جوموسكو، المتخصّصة في التيارات السياسية الإسلامية في جامعة سابانجي في اسطنبول، تذهب فيه إلى أن الإسلاميين العرب الذين يتحدثون عن استنساخ النموذج التركي يسيئون فهم التحوّل في هذا البلد، فالتعايش بين الإسلام والديمقراطية لم يتحقّق في تركيا بفضل قيام حزب العدالة والتنمية بتطوير مؤسسات وهيكليات سياسية تجمع بين المبادئ الإسلامية والديمقراطية، بل لأن الإسلاميين أنفسهم قبِلوا الإطار العلماني – الديمقراطي للدولة التركية. وقد نجم هذا التحوّل في شكل أساسي عن الانتقال النيوليبرالي الذي عرفته تركيا في ثمانينيات القرن العشرين، والذي أدّى في نهاية المطاف إلى ظهور طبقة جديدة وسط الناخبين الإسلاميين تحوّلت إلى قوّة الاعتدال الأيديولوجي. باختصار، ليس هناك «نموذج تركي» عن إسلاموية مندمِجة، بل هناك مسلمون في دولة علمانية – ديمقراطية تعمل في إطار نيوليبرالي، والعوامل البنيوية والمؤسّساتية في تركيا فريدة من نوعها تاريخياً، ولذلك من المستبعد إلى حد كبير أن نشهد عملية مماثلة في مصر.
 
هذا عن مصر، أما عن تونس فتستوقفنا مطالعة مهمة لرئيس جامعة منوبة شكري المبخوت يرفض فيها اعتبار الحبيب بورقيبة باني الدولة التونسية الحديثة نسخة تونسية من كمال أتاتورك على ما يزعم بذلك خصومه الإسلاميون، فهو لم يعادِ يوماً الدين وهو في فهمه لتطبيق الشريعة الإسلامية اعتصم بالقراءة المقاصدية المتجذرة في البيئة المغاربية المتشبعة بإرث اجتهادي بعضه أندلسي وبعضه الآخر آتٍ من التراث الزيتوني الذي أسست له جامعة الزيتونة الإسلامية، فاستغل الزعيم الحداثي المجتهد بورقيبة ذلك الإرث، بقدر استغلاله للإرث الإصلاحي التونسي الحديث لخدمة مشروع التحديث الاجتماعي وبناء الدولة المدنية. على خلاف جذرية أتاتورك وقف بورقيبة في منزلة بين المنزلتين، لم تكن خالية من ذكاء سياسي وفهم براغماتي للمرحلة التاريخية، ولكنها أنشأت، من حيث تدري أو لا تدري، في سيرورتها نقيضها المكبوت والمُهمش الذي كان يترصد الفرصة ليرفع صوته، خصوصاً بعد فشل السياسات الاقتصادية والاجتماعية، فجاء إحراق محمد البوعزيزي لنفسه ليقذف الحمم المكبوتة إلى الشارع.
 
6 مايو 2012