المنشور

صديقي المصري


التقيت مؤخراً بصديق مصري تجمعني به اهتمامات الثقافة في المقام الأول، وفي هذا المجال هناك، دائماً، ما يمكننا الحديث حوله، ولكن لأن الطوفان السياسي هو المهيمن في الساحة العربية الآن، ولأنه مصري، فقد احتل الوضع الراهن في مصر وآفاقه حيزاً كبيراً من حديثنا.
 
من سيكون رئيس مصر القادم؟ هذا السؤال كان مدخل الحوار. وكما في مثل هذه الحالات يظل الحديث محصوراً في نطاق الاحتمالات فقط. لكن الصديق المصري وهو يتحدث عن ما شهده المجتمع المصري من تحولات، تذكرنا بالمحتوى العميق لكتاب جلال أمين: «ماذا حدث للمصريين»، عقد مقارنة رائعة بين اهتمامات جيله، الذي هو جيلي أيضاً، فصديقي سبقني في الدخول إلى الجامعة بعام واحد فقط، وبين اهتمامات الجيل الجديد في مصر.
 
قال الصديق ان أحاديث طلبة الكلية التي درس فيها وتخرج منها في سبعينيات القرن العشرين وغيرها من الكليات كانت تدور، مثلاً، حول آخر فيلم ليوسف شاهين، فيتحاورون عن مغزى اللقطة التي ينتهي بها الفيلم، أو حول حبكته، وأداء الممثلين فيه، ومستوى السيناريو، أو حول آخر قصة كتبها يوسف إدريس، أو آخر رواية لصنع الله إبراهيم: ما فيهما من مغزى ودلالات وما في شخوصهما من أبعاد، أو حول آخر أغنية للشيخ إمام وفؤاد نجم. ويعقد الصديق المصري المقارنة بين تلك المناقشات، وطبيعة النقاشات الدائرة بين طلبة وطالبات الجامعة في مصر اليوم، حيث يتحاور المتحاورون حول قضية من نوع: أيهما أصح شرعاً: الحجاب أو النقاب؟، وفيما كان موضوع انخراط المرأة في العمل بعد التخرج من البديهيات التي كان يبدو مستنكراً مجرد التفكير فيها يومذاك، فان طالبات الجامعة وزملاءهم بالطبع، يمكن أن يتجادلوا اليوم حول عدم جواز خروج المرأة للعمل، وتفرغها في البيت لزوجها وأطفالها، أو أن الضائقة الاقتصادية والمعيشية ربما تبيح للمرأة أن تعمل، شريطة أن يكون في مكان لا يختلط فيه النساء بالرجال.
 
المدهش أن هذا يحدث في بلد عرف الأوبرا والباليه منذ مطالع القرن العشرين، وفي بلد الشيخ علي عبدالرازق صاحب: «الإسلام وأصول الحكم»، وبلد قاسم أمين صاحب: «تحرير المرأة»، وبلد طه حسين الذي كانت كتبه تزلزل الدنيا وهي تنير الأدمغة بأنوار التقدم والتنوير، وفي بلد نجيب محفوظ الذي أعاد صوغ الشخصية المصرية في أدب جميل حمله، ومعه حمل مصر كلها، إلى العالمية، ليس بسبب حصوله على «نوبل» للآداب، فالجائزة هي النتيجة وليست السبب، والبلد الذي أسس للصحافة وللسينما في العالم العربي، وأعطانا أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب وغيرهما من عمالقة الموسيقى والغناء، وإليه كان المبدعون يأتون من لبنان وبلاد الشام وحتى من تونس والمغرب العربي، لأن مصر كانت بمثابة المصهر الإبداعي للثقافة العربية.
 
ماذا ستفعل مصر بميراثها التنويري هذا، ماذا ستفعل بما خلفته ألمع أدمغتها وأذكاها وأكثرها بعداً في النظر، حين كانت تحلم بمستقبل غير هذا لمصر، التي لم تسم عبثاً بأم الدنيا؟ أيكون تعثر مصر الراهن هو الحصيلة المنطقية لعقود الاستبداد والفساد وانقطاع المسار الديمقراطي فيها، أتكون هذه كبوة لا بد منها للحصان كي يعاود انطلاقه السريع نحو هدفه؟