المنشور

ما هو في حُكم زلات اللسان


من الأمور الممتعة التي اهتم فرويد بدراستها: زلات اللسان، ومفيدة جدا تلك الخلاصة التي صاغها في هذا الصدد، من أن الكلمات هي ما يخطئ به الناس قبل أن يصبح خطؤهم فعلاً، وفي هذا تفريق بين الكلام الذي نصدره بوعي وبقصدية، وبين الكلام الذي يسبقنا، قبل أن نزن ما إذا كان قوله مناسباً أم لا.
 
زلات اللسان، إذاً، ليست سوى تعبير عن التفكير العفوي الأولي لدى الإنسان، وعما ينطوي عليه منولوجه الداخلي من تصورات ورؤى قبل أن تنتقل إلى الواقع، وكثيراً ما يدرك الإنسان في وعيه أن هذا النوع من المنولوج غير مقبول أو مستساغ من الجماعة، فيسعى لترويضه وتكييفه ليحظى بالقبول.
 
ذات مرة قال جاك دريدا: لا توجد حقيقة خارج اللغة! مهما بدت هذه العبارة صارمة في حكمها، فإنها تتضمن الكثير من الصحة، فبدون اللغة – الحوار ما كان للخبرات والتجارب الإنسانية أن تصاغ في نسق من التفكير، وما كان بإمكان الأحكام المختلفة أن تخضع لامتحان الصواب.
 
نترك للدارسين تحليل العلاقة المعقدة بين التفكير والكلام، بين تلك المسافة التي تفصل بين لحظة انبثاق الفكرة في دماغ الانسان وبين خروجها من لسانه على شكل كلام يوصله لمن هم حوله، وهي مسافة لا نعلم كيف يمكن قياسها بالزمن، ما هي الوحدة الزمنية اللازمة لمثل هذا القياس، أتكون الثانية مثلاً، أم الدقيقة أم ماذا، لاننا لا نكاد نفطن لذلك، وننسى أن ما قلناه على لساننا إنما مر عبر عملية معقدة، منذ لحظة إرساله من الدماغ، حتى لحظة تشكله ككلام مقال ومسموع من آخرين. ولكن ليس كل ما ينبثق في الدماغ بوسعه أن يصل للآخرين، وتتعدد في ذلك الأسباب، لأنه تبقى في جعبة الإنسان الكثير من الحكايا والخفايا التي لا يلحق أن يرويها للآخرين أو لا يرغب، ويبدو أن الكتابة الإبداعية تنهل من هذا الاحتياطي الثري، وتنفس شيئا من هذا الكتمان، حين تصهر ما في مستودع الذاكرة من تجارب وعواطف وأشواق وأحزان، وتعيد تشكيله في نسيج جديد من الصعب أحيانا تفكيك عناصره وردها إلى أصلها.
 
لكن المنولوج الداخلي مهما كان ثريا، فانه مليء بالمحاذير. يقول بطل رواية عبدالرحمن منيف: «شرق المتوسط» ما معناه: «إن الإنسان مهما كان حكيما وخبيرا بالحياة وسديدا في الرأي، فانه بحاجة دائما لمن يستشيره ويحاوره قبل اتخاذ أي قرار». لكن ما أكثر ما يرتد الإنسان إلى فرديته، فيغلب المنولوج الداخلي، ما تزينه له النفس الأمارة بالسوء على الديالوج، على الحوار مع الآخرين، للدرجة التي تجعلنا نثير السؤال التالي: ألن تصبح حياتنا أكثر استقامة لو أصبح فيها (ديالوج) أكثر، و(منولوج أقل)، لو ضممنا إلى الرأي شيئا آخر اسمه الرأي الآخر؟!
 
مشكلة الولع بالرأي وتجاهل الرأي الآخر هي إحدى عاهاتنا المزمنة، لأن الكثيرين منا يعيشون بين المرايا المتقابلة، فلا يعود بوسعهم رؤية شيء سوى أنفسهم ووجوههم تتراءى لهم من خلال هذه المرايا، في نوع من النرجسية العالية توصلهم لحال الانبهار بالنفس، التي هي حال مَرضية من التضخم تعميهم عما حولهم.
 
22 ابريل 2012