المنشور

المنبر التقدمي …كلمة قبل المؤتمر


تحدد يوم السابع والعشرين من إبريل الجاري موعداً لانعقاد المؤتمر السادس للمنبر الديمقراطي التقدمي في ظروف استثنائية يمر بها الوطن بعد مرور عام ونَيّف على أحداث فبراير 2011. فلقد انقسم المجتمع بكل مكوناته الاجتماعية والسياسية والمهنية بشكل غير مسبوق واختلطت المفاهيم ولم يعد من السهل الفرز بين الوطني والاجتماعي عن الطائفي والديني.
 
لم يشهد المجتمع البحريني لا قبل الاستقلال ولا بعده هذا التفريط في نعمة العيش المشترك لهذا التنوع الانساني الجميل في المذاهب والأصول. بل إن المراحل النضالية للشعب وقواه الوطنية كانت تصب دوماً في مصلحة تأصيل الانتماء المشترك للمرجعية الأوحد، الوطن، في مسيرته نحو التحرر والديمقراطية والعدالة الاجتماعية. ليس في النضال العادل للشعب الموحد في بوتقة الوطن من أجل هذه الأهداف النبيلة المشتركة ما يمكن أن يشرخ الصف الوطني أو يُشتِت وعيَه، بل وعلى النقيض من ذلك، استقبلت الأمهات في بيوت المحرق المصابين بمسيلات الدموع والرصاص من أبناء المنامة وقراها والعكس صحيح. كانت القلوب مشرّعة تحتضن بعضها البعض دون تمييز. النضال الوطني المشترك أنبت كتاباً وشعراء يلتقط تغريدتهم كل المتعطشين للكلمة الوطنية الجامعة والمعبّرة عن همُوم الناس وأحلامهم. كانت الحركة الوطنية بأطيافها إطاراً لكل من قرر الانتماء الى العمل السياسي المُنظم دون تمييز، إذ كان المعيار الوحيد الالتزام ببرنامج العمل السياسي والذي كان وطنياً بامتياز على اختلاف الانتماءات الفكرية والايدلوجية لأطراف الحركة الوطنية، خلافا للأحزاب الطائفية اليوم. وفي النضالات المطلبية والنقابية كان الجامع المشترك هي الحقوق المعيشية والنقابية. واختلط المعتقلون والمنفيّون معاً سنّة وشيعة، يساريين وقوميين ومستقلين.
 
هذه كانت طبيعة العمل الوطني وجوهره إلى أن هبّت رياح الطائفية والتشطر المذهبي على بلدنا والمنطقة والبلاد العربية قاطبة بدءاً بالثورة الايرانية التي أقصِيَ عنها الليبراليون واليساريون والقوميون والنقابيون والبرجوازية الوطنية وجيّرتها المرجعية الدينية لصالح الدولة الدينية الطائفية، وانتهاءً بالقاعدة وطالبان والإخوان والسّلف والقوى والدول التي اخترعت بعضاً من هؤلاء ووظفت البعض الآخر. كان الهمّ لدى الأصيل منهم والوكيل مواجهة قوى التقدم والديمقراطية والحداثة ببرامجها الاقتصادية والاجتماعية وتمسّكها بالسيادة الوطنية والعلاقات الدولية المتوازنة. هنا نبتت نبتة الفتنة وتلوث الوعي بداء غريب عن المجتمع بدأ ينخر في العقول والنفوس فهدّ مناعتنا أمام الفكر الظلامي بتلاوينه، وحجب الرؤية عن أعين البعض ليصبحوا فريسة للتطرف وللانتهازية معاً.
 
قام المنبر باقرار وثيقة النقد الذاتي لقراءته الخاطئة لأحداث فبراير وتداعياتها وللخريطة السياسية في البلاد وفي المنطقة، في ظل اختلافات في مقاربة الوثيقة بين من يراها غير كافية ومن يرفضها ويعتبرها تراجعا عن الخط الثوري واستسلاما للنظام. هكذا هو حال المجتمع والبيت الواحد ولا يمكن للقوى السياسية إلا أن تكون من هذا النسيج وبالتالي لا يمكن أن يكون هناك موقف موحد تجاه حدث بحجم ما تعيشه الدولة أريقت فيه الدماء وغلفته سحب دخان الحرائق وزجاجات المولوتوف والغازات المسيلة للدموع والمواجهات اليومية، في جو الاستقطاب والتحريض ونشر الشائعات والإعلام المُؤزِّم، والموجة العاتية من الانتفاضات على امتداد البلاد العربية وما سُمي بالربيع العربي وأوهامه وإعلامه المنفلت ليلا نهارا.
 
ما كان من الممكن أن يتوحد الناس على موقف مُوحد وهناك من يسعى الى «فوضى خلاقة» رُصدت لها ميزانيات مفتوحة وجيوش وأسلحة دمار وأدوات تخريب وغرف عمليات، مستفيدة من الاستياء العام ضد انظمة القمع والفساد، ومن تلكؤ أنظمة أخرى في خطواتها الإصلاحية.
 
وإذا كانت الأوضاع بهذا الحجم من التعقيد فإن الحركة السياسية هي أعقد أشكال الحركة الاجتماعية وتختزل في تكوينها كل التمايزات الروحية والنفسية والاجتماعية وإن توحدت في الفكر السياسي والاجتماعي وتأطرت في نظام حزبي موحد. هذا بعض ما يفسر الانقسامات والتكتلات والشلليةِ في الأحزاب السياسية والانتقال من انتماء حزبي إلى نقيضه والصّدامات المسلحة والتصفيات الجسدية. هذه الحقيقة ليست خاصة ببلدٍ معين ولا بمجتمعات بعينها أو حزب سياسي دون غيره، بل هي ظاهرة تاريخية وعالمية تختلف حِدتها من بلد الى آخر تبعاً لمستوى التطور الاجتماعي والموروث الثقافي والمكون النفسي لهذا الشعب أو ذاك، ومستوى النضج الفكري والسياسي والخبرة التاريخية للحركة السياسية المعنية وأفرادها.
 
وعلى هذا الأساس نعتقد بأن عملية التقييم لمسيرة المنبر ومواقفه السياسية تتطلب قدرا أكبر من الموضوعية وهدوء الأعصاب وإلى مزيد من الوقت والحوار الداخلي. فهذا الكيان السياسي الذي ولد من رحم جبهة التحرير الوطني بعد عقود من النضال الدؤوب والتضحيات الجسام وفي ظل المشروع الإصلاحي وميثاق العمل الوطني، قد تبنى برنامجا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا تقدميا يعبر عن تطلعات غالبية فئات الشعب ويؤكد على العمل تحت المظلة الدستورية وشرعيتها وبالوسائل السلمية لتحقيق الأهداف المفصلة في البرنامج السياسي وبالتحالف مع القوى والشخصيات الوطنية، وهو في ذلك يعبر عن الفكر المنفتح الجامع وروح التسامح ضد كافة اشكال التمييز والإقصاء والاستبداد الفكري.
 
وكان المبادر إلى طرح مشروع الحوار الوطني للتوافق على المسائل الخلافية كي تسير عملية الإصلاح الشامل بصورةٍ سلسة تجنباً للتأزيم كالذي نعيشه اليوم ونجهدُ للخروج منه، ولقطع الطريق على أي شكل من أشكال التدخل الخارجي في الشؤون الداخلية للوطن، لأن أبناءه أقدر على حلّ مشاكلهم إذا ما خلصت النيات وساد العقل وأدرك الجميع أن أحدا َلا يمكنه احتكار القرار السياسي وتهميش الآخرين وأنه لن تستقيم أمور الدولة إن لم تكن عادلة مطهّرةَ من الفساد والمفسدين، وأن سيادة القانون ومساواة الجميع أمامه وفصل السلطات ضمانة للعدلِ ولهيبة الدولة وثقة الناس بها وبمؤسساتها.
 
لعل أهمّ المحاور التي يتطلب التوقف عندها في المؤتمر السادس مقاربة الوضع السياسي وأسبابه وآفاق تطوره ودور المنبر والتيار الوطني الديمقراطي في هذا المسار. والمحور الثاني هو مسالة التحالفات السياسية الإستراتيجية المتصلة بتطوير النظام السياسي والاقتصادي المعبر عن مصالح الشعب وجماهيره الكادحة، والمرحلية حول قضايا آنيّة تخص المجتمع أو قطاعات معينة منه، وضرورة التوقف عند أسباب التذبذب وتكرار الأخطاء في موضوع التحالفات خاصة مع الوفاق والجمعيات الطائفية رغم سياسة الاستفراد والأنانية السياسية وإهانة الحلفاء في الخفاء والعلن. ولنا في التجارب الانتخابية والمساومات الجانبية مع السلطة في الدهاليز عِبرة. قضية التحالفات هي قضية حاضرة في المنبر منذ تأسيسه وكان في صُلب اهتمامات الجبهة في ظروف العمل السري. وبعد الثورة الإيرانية حين تصور البعض أن الثورة العالمية قد بدأت على غِرار ما يتصوره البعض عمّا يسمّى بالربيع العربي أكدت الجبهة آنذاك على ضرورة الدفع في عملية توحيد القوى التقدمية والديمقراطية واستقلالها فكريا وسياسيا عن التكوينات الطائفية التي وُضِعت لبناتها الأولى الخجولة نهاية السبعينات من القرن الماضي وتبلورت في التسعينات، وأن معيار التحالف مع هذه القوى او تلك هو قربها من برنامج التغيير الوطني والديمقراطي الذي أعلن عام 1962 والنهج التقدمي للحركة الوطنية بعيدا عن الاصطفاف الطائفي أو الديني.
 
بمعنى أننا نحن من يحدد طبيعة التحالفات التي نبنيها وشروطها وأهدافها مع من يصطف في نفس الاتجاه ونفس الخندق الفكري التحرري الجامع، وبالتالي فإنه لا يمكن لتنظيم تقدمي كهذا أن يكون مجرّد رقم في تحالف تهيمن عليه قوى بأمر الواقع على أمل أن نجني بعض الفتات وترضى علينا الناس. وهذا ما كنا نطرحه باستمرار منذ بداية المشروع الاصلاحي عن اختلاف الأجندات بين الوطني والطائفي من دون الاضرار بما تتطلبه المصلحة الوطنية من تنسيق وحوار مع كافة المكونات السياسية في القضايا المشتركة ولتعميم أجواء تصالحية في المجتمع.
 
إن تسارع الأحداث في مرحلة الميثاق وتردد فصائل وطنية أخرى في الانحياز لتحالف ديمقراطي ولأسباب آنيةٍ وانتخابية، وبسبب حساسيات المرحلة السابقة، ولعدم قيام النظام بخطوات جَادة لتعميق التحولات الإصلاحية و تلبية المطالب الملحة في المجالات المعيشية كافة وترددِها في السّير مع السلطة التشريعية لمعالجة ملفات الفساد وهدر المال العام والاستحواذ عليه، إلى جانب العامل الطائفي لدى البعض والضغوط النفسية والمادية على أبناء مناطق النفوذ الطائفي، أدّى إلى غلبة الرأي المؤيد للانضمام إلى ما سمّي بالتحالف السداسي في حينه، رغم وجود رأي آخر معارض لذلك من حيث المبدأ، ثبتت صحته بما آلت إليه الأمور منذ أحداث فبراير.
 
بعض من أصحاب الراي المنحاز إلى التحالف مع الجمعيات المعارضة دون اعتبار للثوابت الفكرية يرى أن المنبر قد عزل نفسه، بينما يذهب آخرون أبعد من ذلك ليتهموه بالاستسلام وربما بالخيانة. لسنا في هذا المقال في مجال معالجة هذه المسالة الشائكة فمكانها المؤتمر، ولكنها بلا شك أكثر المواضيع حساسية وإلحاحا وتتطلب مقاربة نقدية بنّاءة. لقد كان النقد والنقد الذاتي من أساسيات العمل التنظيمي للأحزاب الوطنية والتقدمية وبنداً إلزامياً في النظام الداخلي للجبهة وهو كذلك اليوم في المنبر ينبغي التمسّك به في كل الظروف. غير أنه، وليؤدي هذا المبدأ التنظيمي وظيفته، ينبغي تجريده من الذاتية والتعصب وازدراء الرأي الأخر والتشهير به والتكتل ضدّه. إن هذه الممارسات غريبة عن حياة الأحزاب التي تناضل من أجل الديمقراطية والتداول السلمي الحضاري للسلطة سياسيةَ كانت أم مجتمعية. والنقد والنقد الذاتي هو من أجل تعزيز بنية الحزب والحفاظ على بوصلته التي تتعرض للاهتزاز بفعل الواقع والعامل الذاتي. من لا يعمل لا يخطىء. والتنظيم السياسي شأنه شأن أي تنظيم مدني إنما يقام للعمل ولتحقيق أهداف محددة بالتفاعل مع المجتمع بهدير حركته وزخمها والتي قد لا نستوعبها في اللحظة الراهنة فنرتبك في التعاطي معها. ونقول أن أي حوار داخلي واختلافات في المواقف ينبغي أن يوجّه نحو الحفاظ على وحدة المنبر تنظيما وفكرا بالتغلب قدر الإمكان على التعقيدات البنيوية لتركيبته من أناس يتفقون في الفكر ويختلفون كبشر ما عدا ذلك.
 
المنبر هو تنظيم طوعي اختار أعضاؤه توحيد إرادتهم فيما يرونه من فكر ونهج لمصلحة الوطن وجماهير الشعب وهو جسم حيّ يعج بالحركة والتناقضات التي ينبغي أن تبقى في ظلّ الوحدة. وفي تقديري فإن هذا المطلب، وهو بند آخر على جدول الأعمال، هو حاجة بل وضرورة وطنية تهمّ كل الحريصين على التيار الديمقراطي بوصفه وعاءاً جامعاً لكل مكونات المجتمع ولمصلحتهم ومصلحة أبنائهم ومستقبلهم دون تمييز، ولمصلحة الحفاظ على المكاسب الوطنية والحضارية للمجتمع البحريني وتطويرها. وفي لحظة كهذه سيكون المنبر في حاجة إلى عون الأصدقاء وصبرهم وحكمتهم وليكونوا عوناً له في هذه المحنة الوطنية التي تتطلب وحدة الصف ونشر ثقافة الحوار فالمهام الوطنية جسيمة ودور التيار الوطني الديمقراطي محوري على المدى المنظور وفي الآتي من الزمن وقد برزت معالم تناقضاته بين قوى التنوير وقوى الظلام.
 
الأيام   21 أبريل 2012