المنشور

التنويـــــر والديـــــن


هل ذلك الفريق من خصوم التنوير يتحركون – فعلاً – من الغيرة على الدين وعلى الاخلاق والقيم ام ان عجزهم عن فهم معنى التنوير يدفعهم الى ذلك الخلط واطلاق احكام دون بينة او اثبات وبرهان؟ هذا السؤال طرحه الباحث حلمي النمنم في دراسته حول التنوير والدين.. والدافع كما يرى نمنم الى طرح مثل هذا السؤال يعود الى منشأ هذا الفهم المشوش والمسطح للتنوير اي يعود الى ان كثيرين هنا لا يدركون من التنوير غير النموذج او التجربة الفرنسية في التنوير خلال القرن الثامن عشر، قرن الثورة الفرنسية وفلاسفتها من امثال فولتير وروسو وديدرو والواقع ان التنوير الفرنسي كان احتجاجاً قوياً واعتراضاً حاداً على سلطة الكنيسة ونفوذ رجال اللاهوت الذي كان طاغياً لقرون.
 
وبالاضافة الى ذلك يسترسل الباحث في عرض موقف التنوير من السلطة السياسية في فرنسا اذ كان واضحاً, ناهض تلك السلطة وعمل على تقويضها حيث اسهم اسهاماً كبيراً في قيام الثورة ومن ثم اسقاطها لتحل الجمهورية محلها، وبعد الثورة حين استبد فريق من الثوريين ومارسوا القمع الثوري كما فعل «روبسبيير، الذي انطلق في الانتقام والتخلص من الخصوم، وقف التنويريون ضده، اي ان التنوير كان ضد الاستبداد والتسلط ايا كان مصدره سياسياً ام كهنوتياً دينياً.
 
ومن جملة ما وصل اليه الباحث في هذه الدراسة انه ليس هناك قالب للتنوير تؤخذ وتنفذ حرفياً ومن يتصور ذلك مخطئ سواء كان من السلفيين او حتى من التنويريين انفسهم. فالنموذج الاحادي ضد التنويري ولكن هناك تجارب وحالات عديدة اي التعدد في الفهم والرؤى فضلاً عن ان الباب مفتوح لتجارب اخرى جديدة قد تكون مغايرة لما سبق وبين هذه التجارب عناصر مشتركة تتمثل في اطلاق حرية العقل للتفكير وقدرة الفعل الانساني على التجريب والبحث عن الجديد وهو ما فتح الباب امام التطور العلمي والنهضة الصناعية في دول الغرب ويضيف: وقبل كل هذا وبعده لابد من الاصرار على حرية الانسان وحماية تلك الحرية، الحرية في القول وفي الفعل، فلا يجب ان يُمارس على الانسان استبداد سياسي او محاكم تفيتش تكبل روحه وتقيد مشاعره ويترجم هذا كله في بناء دولة مدنية تقوم على التعددية تضمن حرية الانسان وتحميه من التسلط السياسي او التسلط الاجتماعي باسم التقاليد والذي يترتب عليه النفاق والتدين الكاذب وفي النهاية تحمي الانسان من التمييز على اساس الجنس (رجلاً وامرأة) او على اساس الدين او العرق او اللون فحدوث ذلك التميــيــز هــو الظلاميـــة بعينهـــا والتنويـــر الحق عليـــه التصــدي لكــل هـــذا.
 
ويتحدث نمنم في هذا البحث عن النموذج او التجربة المصرية للتنوير ومدى تأثرها بالتجربة الفرنسية في حين يرى انه ما يلفت في التجربة المصرية عدة امور في مقدمتها ان حركة التنوير ظهرت من داخل مشروع الدولة الحديثة الذي بدأه وتبناه محمد علي ومن بعده اسماعيل امتداداً الى القرن العشرين، كما تحدث عن رواد الاستنارة في مصر مثل رفاعة الطهطاوي، محمد عبده، علي عبدالرزاق، طه حسين، محمد حسين هيكل وغيرهم.
 
وكذلك يتحدث عن رواد التنوير ذوي الاصول الازهرية في تعليمهم وثقافتهم مثل حسن العطار اول دعاة التنوير. ومع ذلك يقول: لا يعني ذلك ان الازهر بارك التنويريين على طول الخط ولا يمكننا القول ان التنوير خرج من معطف الازهر فقد كانت هناك مشاكل واعتراضات باستمرار وصلت الى حد تكفير بعض المتشددين من علماء الازهر للشيخ محمد عبده والشيخ علي عبدالرزاق!! لكن نحن اليوم ازاء حملة شرسة ضد التنوير اذ تعتبر التنوير كفراً صريحاً وقد اسفرت هذه الحملة عن اغتيال د. فرج فودة في صيف سنة 1992 ثم محاولة اغتيال نجيب محفوظ سنة 1994 ولازال مناخ التحريض قائماً ويزداد قوة وكثافة عاماً بعـد عــام.
 
اما لماذا هذه الحملة؟ وما اساسها؟ ومن يقف وراء هذه الحملة؟ يقول الباحث: يقف وراء هذه الحملة تيار لديه فهم خاص للدين والايمان، تحديداً الدين الاسلامي هؤلاء يضعون معادلة تقوم على صياغة قاطعة وهي ان تؤمن بالله وتعتنق الاسلام يساوي ان تؤمن بقيام الدولة الدينية وفقاً لآيات الحاكمية في القرآن فاذا لم تؤمن بالحاكمية تبدد اسلامك وصرت في عداد الكفار في حين التنوير يدعو للعمل على بناء الدولة المدنية ولهذا السبب وحده جرى اهدار دم فرج فودة واغتياله.. والمعنى ان التنوير ورجاله سوف يبقون في دائرة الاتهام والتكفير الى ان تتغير الظروف والمعطيات القائمة.
 
ألأيام 21 ابريل 2012