المنشور

استقلالية مؤسسات المجتمع المدني


من سمات الشمولية العربية هيمنة الحكومات على مؤسسات المجتمع المدني، والتي فقدت بحكم هذه الهيمنة صفتها التمثيلية للقطاعات التي تنطق باسمها، فكانت النقابات والاتحادات النسائية والشبابية والطلابية أو سواها تدار مباشرة من الحزب الحاكم في هذا البلد العربي أو ذاك، أو خاضعة للبيرواقراطية الحكومية التي تتحكم في سياسات هذه المؤسسات وتخضعها لها كلية، فلا تعود سوى صدى للخطاب الحكومي.
 
من الأمور التي تحسب لمؤسسات لمجتمع المدني في البحرين انها نبعت من قلب الحراك المجتمعي المستقل عن الدولة، وليس القصد هنا أنها نشأت لمغالبة الدولة، وإنما لتتوفر على أهم شرط من شروط المجتمع المدني وهو الاستقلالية، وفي المحافل العربية والدولية ذات الصلة كان ينظر للجمعيات والاتحادات البحرينية الأهلية بهذه الصورة، سواء تعلق الأمر بالحركة النقابية العمالية، أو بالجمعيات المهنية، كجمعيات المحامين والأطباء والمهندسين، وكذلك بالمؤسسات الممثلة للمبدعين والفنانيين.
 
المجتمع كان أسبق من الدولة في تنظيم نفسه في هيئات معبرة عنه، ومجسدة لمصالح وتطلعات قطاعاته المختلفة، ويعود الفضل في ذلك للشرائح الحديثة من الكفاءات المهنية والثقافية التي تلقت خبراتها الأولى في العمل النقابي في صفوف الحركة الوطنية والتقدمية البحرينية، واستطاعت أن تضع مداميك المجتمع المدني البحريني الحديث، مُستوحية في ذلك تراث الحركة الوطنية المناهض للطائفية والمعبر عن كافة فئات المجتمع، والمتجاوزة لآثام التخندق الطائفي البغيض.
 
صحيح ان هذه التجربة لم تخلُ من أخطاء لا سبيل لنكرانها في بعض الحالات، مثل غُلبة السياسي على المهني، أو انتقال عدوى المنافسات الحزبية الى بعض هذه المؤسسات، ولكنها أخطاء من النوع الذي يمكن التغلب عليه مع تعمق التجربة ونضجها، ولا يصح وضعها في سياق يعطيها أكبر من حجمها، لو قارنا الأمر بما بات يتهدد استقلالية مؤسسات المجتمع المدني في الفترة الأخيرة.
 
يأتي هذا التهديد من أمرين، ينبع الأول مما اعترى المجتمع من انقسام طائفي عميق وبغيض، محزن ومقلق ومخيف، شمل كل شيء تقريباً، ولم تنجوُ منه مؤسسات المجتمع المدني والنخب السياسية والثقافية في البلد، التي يفترض فيها أن تكون خط الدفاع الأخير بوجه الغول الطائفي والمذهبي، لكنها لم تظهر الحصانة الكافية التي تمكنها من أن تكون كذلك.
 
أما الأمر الثاني فيأتي من فهم ضيق وخاطىء لبعض أجهزة الدولة لدور مؤسسات المجتمع المدني، أدى وسيؤدي أكثر، في حال استمراره، لمصادرة الفضاء الأهلي في البلاد، وهو أمر بلغ مستويات جديدة، وجدنا لها تجليات في انتخابات جمعية المحامين قبل شهور قليلة، وتكررت أمس الأول مع انتخابات جمعية الأطباء.
 
ما زالت نتائج انتخابات جمعية المحامين محل سجال بين الجمعية ووزارة التنمية التي ترفض الاعتراف بنتائج هذه الانتخابات، وستنشأ مشكلة مشابهة إزاء انتخابات جمعية الأطباء، حيث يعتزم عدد ممن ترشحوا لانتخابات مجلس الادارة الجديدة، وبينهم وجوه بارزة كان لها دور مشهود في تأسيس الجمعية وبنائها، التقدم الى القضاء للطعن في قانونية هذه الانتخابات على خلفية خرق بنود النظام الأساسي للجمعية.
 
وهذا يعني اننا انتقلنا إلى فصل جديد من علاقة غير صحية بين الدولة والمجتمع المدني، كنا في غنى عنها.