المنشور

اجراءات التقاضي المعقدة لدى منظمة التجارة العالمية


تبرز المنازعات التجارية بين الدول الأعضاء في منظمة التجارة العالمية بشأن سلعة القطن، كاحدى تجليات استعصاءات جولة الدوحة (الجولة التاسعة من مفاوضات تحرير التجارة العالمية المتعددة الأطراف في اطار منظمة التجارة العالمية)، وهي الجولة التي أُطلق عليها بالمناسبة جولة الدوحة للتنمية أو أجندة الدوحة للتنمية (DDA)، والقصد ان تكون مخرجات هذه الجولة محققة لبرامج وأهداف التنمية في الدول النامية الأعضاء في منظمة التجارة العالمية التي كانت عبرت عن عدم رضاها من نتائج جولة أوراغواي (الجولة الثامية) من مفاوضات تحرير التجارة العالمية في اطار الاتفاقية العامة للتجارة والتعرفة الجمركية (GATT) التي استمرت زهاء ثمان سنوات (1986-1994).

وتتمثل المشكلة في الدعومات أو الاعانات الحكومية (Subsidies) التي توفرها الحكومات لمنتجي القطن في العالم والتي تتسبب في اختلال شروط التبادل التجاري وتؤثر سلبا على التنمية في الدول النامية. ومع ان تجارة القطن لا تشكل سوى 0.1% من مجمل التجارة السلعية العالمية، الا ان ايرادات القطن بالنسبة لبعض الدول النامية تشكل أكثر من ثلث عائداتها من الصادرات. وبينما لا يشكل القطن سوى 0.4% من الصادرات السلعية الامريكية، الا ان الولايات المتحدة هي لاعب رئيسي في اسواق القطن العالمية، حيث ان صادراتها من القطن تشكل ثلث الصادرات العالمية من القطن. وبسبب هذا الغبن المتمثل في اللاتوزان في العوائد لدى منتجي القطن المختلفين حول العالم، فقد كان لابد لقضية الاعانات الحكومية ان تكون على الأجندات الساخنة لمنظمة التجارة العالمية.

وقد بدأت القضية في 2002 عندما أثارت أربع دول افريقية مصدرة للقطن هي: بنين، بوركينا فاسو، تشاد ومالي (تُعرف باسم C-4) والبرازيل قضية الدعم الذي توفره بعض الدول المنتجة للقطن لمصدريها ما أدى الى انخفاض اسعار القطن وخسارتها لعوائد تصدير مستحقة. وفي حين اتبعت البرازيل الاجراءات المتبعة في التقاضي لدى منظمة التجارة العالمية بدءا باجراء التفاوض والتشاور مع الدولة المدعى عليها وهي هنا الولايات المتحدة ثم رفع الدعوى الى جهاز فض المنازعات في المنظمة الذي عين هيئة التقاضي لنظر الدعوى واصدار الحكم ضد الولايات المتحدة بالغاء الدعم الذي سرعان ما استأنفته واشنطن وخسرته أيضا – فان الدول الأربع سلكت طريقا آخر وذلك بطلبها تعويضا ماليا، الا ان هذا الطلب ضاع وسط ادخاله في دهاليز مفاوضات جولة الدوحة.

وهذا يعني بقاء الوضع على ما هو عليه، من حيث استحواذ  الولايات المتحدة على ثلث صادرات القطن العالمية البالغة حوالي 30 مليار دولار، وكذلك “بفضل” الدعم الذي يتلقاه مزارعو القطن الامريكيين من حكومتهم والذي يتراوح ما بين 2-4 مليار دولار سنويا. وهناك أيضا الدعم الذي يتلقاه مزارعو القطن الاوروبيين من مفوضية الاتحاد الأوروبي والبالغ حوالي مليار دولار سنويا.

المثير في هذه القضية التجارية الدولية انها تصلح لأن تكون نموذجا لطبيعة علاقات القوى الاقتصادية والتجارية غير المتوازنة وغير المتكافئة داخل منظمة التجارة العالمية. فادراكا من البرازيل بأن الحكم النهائي الذي صدر لصالحها من جهاز فض المنازعات في المنظمة، والذي جاء منقوصا، حيث كان التعويض الذي طالبت به البرازيل في دعواها هو 3 مليار دولار بينما قضى الحكم باستحقاقها للتعويض عن خسائر مصدري القطن لديها بسبب الدعومات الامريكية، بقيمة 830 مليون دولار فقط – ادراكا منها لصعوبة تحصيل مستحقات تعويضها، وذلك لأن الحكم، كما هي اجراءات التقاضي والأحكام الصادرة عن المنظمة، يعطي للبرازيل الحق بتحصيل ضرائب اضافية على واردات السلع الامريكية ليس فقط على السلعة الامريكية النظيرة المستوردة من الولايات المتحدة، أي القطن، وانما يعطيها الحق أيضا في تحصيل ذلك المبلغ من التعوضات الذي نص عليه الحكم من سلع أخرى مستوردة من الولايات المتحدة، لذا فان البرازيل ارادت أن تجعل من اجرائها المضاد ountermeasure) مؤلما ومجبرا الولايات المتحدة على التفاوض، ، فشملت بضرائبها الاضافية – كما سمح بذلك حكم جهاز فض المنازعات – سلع حقوق الملكية الفكرية وسلع الخدمات. وهذا بالفعل ما اضطر الولايات المتحدة للتفاوض مع البرازيل والتوصل معها الى مذكرة تفاهم في شهر نونيه 2010 جنّبت الطرفين الدخول في حرب تجارية، حيث تضمنت المذكرة التزاما امريكيا باجراء تعديلات على برنامجها لضمان ائتمان الصادرات (Export Credit Guarantee Program) الذي يحصل بموجبه المصدرون الامريكيون على دعومات مالية تمكنهم من المنافسة السعرية السلعية في الخارج، وانشاء صندوق لتقديم الدعم الفني وبناء القدرات لقطاع القطن البرازيلي.

ومع انه اتفاق هزيل قياسا للفترة التي استغرقها النزاع التجاري بين البلدين بشأن صادراتهما من القطن، الا انه على الأقل ضَمِن تحصيل بعض حقوق البرازيل بينما خرجت الدول الافريقية الاربع التي تشاطر البرازيل نفس المعاناة من اعانات التصدير الامريكية، من المسألة خالية الوفاض.

وهكذا فان قضية القطن التي لازالت الى اليوم محور خلاف وتجادل بين الدول النامية المنتجة والمصدرة للقطن والدول الرأسمالية الكبرى المنتجة والمصدرة له، حيث تواصل الأخيرة تمسكها بموقفها الرافض لاجراء تخفيضات على السقوف الجمركية المفروضة على وارداتها القطنية – هذه القضية تصلح مثالا للتفكر وأخذ العبر من تعقيدات نظام التقاضي في منظمة التجارة العالمية على خلفية مواضيع الاعانات الحكومية (Subsidies) والاغراق (Dumping)، وهي قضية تثبت بأنه حتى لو توفرت لدى الدولة المتضررة سواء من الاعانات الحكومية أو من ممارسات الاغراق، القرائن المادية الضامنة لنجاح دعواها فان عليها أن تتوقع تعقيدات اجراءات التقاضي وطول أمد نظر دعواها قبل الفصل فيها من قبل جهاز فض المنازعات في المنظمة. ولعل هذا هو ما يجبر بعض الدول على اللجوء للتسويات الجزئية بدلا من السير في دعوى التقاضي.