المنشور

حكاية مواطن عربي


ذات زيارة إلى ألمانيا منذ عدة سنوات خلت، استوقفني في إحدى مدنها مشهد ذلك العربي المهاجر إلى تلك البلاد الذي كان يفترش الأرض في وسط الشارع الرئيسي في المدينة، ويضع أمامه طبلة صغيرة الحجم ويمسك عصا بكل يد من يديه. وسط ازدحام المارة ولهثهم نحو أمورهم كما هو حال الناس في المدن الأوروبية عامة، حيث كل الأمور تسير بسرعة لا يبدو معها ان كثيرين هم من يأبهون بأمر هذا العربي الغريب، إلا من قدر له ان يقف أمام «فاترينة» محل قريب من المكان الذي جلس فيه الرجل.
 
ولكن العرب المهاجرين الى المدينة يتداولون الحكاية الدرامية لهذا المواطن العربي الذي وجد نفسه بعيداً عن أهله ووطنه. ما يعرفه هؤلاء أن الرجل فاقد الذاكرة تماماً، وأنه لا يعرف من أين أتى بالضبط، ومن هم أهله وأين هم وكيف أصبحوا. ولذلك حكاية تكشف مقدار الهوان الذي نحن عليه. حكاية هذا الرجل البسيط انه ذهب ذات جمعة بعيدة إلى المسجد للصلاة. بعد الصلاة انقلب تجمع المصلين إلى حشد مناوئ للحكم في البلد الذي أتى منه وسط جو مشحون في ذلك البلد، حين تقدم رجال الشرطة والجيش نحو الجموع مدججين بالعصي والسلاح ألقوا القبض على من تيسر لهم القبض عليه، وكان بينهم هذا الرجل البسيط، البعيد كل البعد عن السياسة وعن الجماعات موضوع الشبهة في ذلك الحشد، ولأنه لم يكن يعلم شيئاً عن خلفيات ومقدمات ما جرى، فإنه لم يعرف أن يجيب عن أسئلة المحققين. لم يكن يعلم شيئاً وكان يكرر هذا القول أمام من يستجوبونه. لكن من يقنع رجل الأمن بأن الشخص يمكن ان يكون لا يعرف شيئاً بالفعل ولا علاقة له بما جرى؟ على هذا الشخص ان «يعترف» إجبارياً، أن يقول انه يعرف وأن يعطي أسماء ووقائع.. لأن القول إنه ذهب الى الجامع لأداء صلاة الجمعة فحسب وحدث ما حدث هو بالنسبة للمحقق ترهات. فكان ان انهالوا عليه بالضرب وبصدمات الكهرباء التي أفقدته ذاكرته وعقله نهائياً، ليخرج من السجن رجلا آخر قذفته الأقدار في ما بعد إلى المانيا لتلقي العلاج، لكن كيف يمكن إعادة العقل لمن فَقَدَ عقله؟ أيقن الاطباء الألمان أن لا سبيل لعلاج الرجل، ولكنهم من باب التعاطف معه أوصوا بأن يمنح حق اللجوء الإنساني في ألمانيا.
 
لقد انتهت حياة الرجل قبل ان يموت، حيث لا سبيل لاستئناف الحياة في صيغة جديدة بعيداً عن أوطان كأنها صممت للقهر والعدوان على حق أبنائها في الحياة، فكان ان وجد نفسه وحيداً يفترش الارض في أيام ماطرة، باردة، عارضاً نفسه امام الناس بطبلة وعصا في كل يد، بعيداً عن حضنه الأول وعن سمائه الأولى، بعيداً تحت سماء رمادية كئيبة لا تشبه تلك السماء التي تضيئها شمس الشرق الساطعة التي تحت نورها يسرح الجلادون وجلاوزة التعذيب والقتل والسماسرة.
 
4 ابريل 2012