المنشور

كثُرت الاعتذارات يا فخامة الرئيس


ما كاد الرئيس الأمريكي باراك أوباما ينتهي من اعتذاراته وتوسلاته للأفغان والمسلمين طلباً للسماح والغفران عما قام به جنود أمريكيون تابعون لقوات حلف شمال الأطلسي من عمل مشين ومستهتر، وذلك بالتخلص من مواد دينية من بينها نسخ من القرآن الكريم بحرقها، ما كادت تمضي عشرة أيام على ذلك الاعتذار، حتى اضطر الرئيس أوباما إلى معاودة إطلالته الاعتذارية الرتيبة ثانية، باذلاً هذه المرة قصارى جهده وطاقته البلاغية التأثيرية المعبّرة عن حرص شديد للظهور بمظهر المفجوع والمتأثر تأثراً فظيعاً بالنبأ الجلل الذي وقع عليه وعلى أقطاب إدارته وقع الصاعقة . فالجريمة هذه المرة هزت بهولها الضمير الإنساني العالمي . فلقد خرج جندي أمريكي من قاعدته في مدينة قندهار في الساعة الثالثة فجراً بعد أن امتشق سلاحه الحربي ومخزوناً وفيراً من الذخيرة الحية، وقصد بيوت أهالي القرية المجاورة، وراح يطلق النار عشوائياً على أولئك المدنيين العزل فقتل أكثر من 16 شخصاً، وجرح أكثر من 35 معظمهم من الأطفال والنساء، قبل أن يعود بهدوء إلى قاعدته ويدخل مكتبه ليتم احتجازه في ما بعد .
 
والغريب أنه لا يكاد يفصل بين هذين الحادثين والهجوم الذي شنته طائرات مروحية تابعة للحلف تتمركز في أفغانستان وأغلبيتها قوات أمريكية داخل الأراضي الباكستانية، واستهدف نقطتي تفتيش عسكريتين للجيش الباكستاني في بلدة بايزا بمنطقة مهمند القبلية الواقعة إلى الشمال الغربي من باكستان، ما أدى إلى مقتل 26 جندياً وضابطين باكستانيين كانوا نياماً أثناء الهجوم، لا يكاد يفصل بين هذين الحادثين وهذا الحادث فاصل زمني كبير، حيث كان هذا الهجوم قد وقع في السادس والعشرين من شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي . وهو الهجوم الذي أثار غضب باكستان ودفعها إلى مطالبة واشنطن إخلاء قاعدة شامسي الجوية التي تستخدمها وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية “سي آي إيه” في شن غارات بطائرات من دون طيار على مراكز تجمعات تنظيم القاعدة ومقاتلي طالبان باكستان في المناطق الحدودية الباكستانية الأفغانية . كما دفعها إلى إغلاق جميع المعابر الحدودية التي تستخدم لنقل ما يقرب من نصف احتياجات حلف شمال الأطلسي من الإمدادات لأكثر من مئة وثلاثين ألف جندي أمريكي وأطلسي يحتلون أفغانستان .
 
ما هذا يا فخامة الرئيس (أوباما)؟ لقد كثُرت اعتذاراتكم مع تكرار الانتهاكات الجسيمة التي ترتكبها فروع القوات المسلحة الأمريكية المنتشرة في مناطق العالم المختلفة، لاسيما في المناطق المشتعلة حرباً مثل أفغانستان، والساخنة مواجهاتٍ متقطعةً ولكن مستمرة، وتوتراتٍ ملغومةً، التي يندرج معظمها في خانة جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية وجرائم الاعتداء، بحسب الاتفاقية الدولية التي أنشأت محكمة الجنايات الدولية في روما في العام 2002 .
 
فخامة الرئيس، إن التحول في سياستكم الحربية الخارجية من الحروب والمواجهات المسلحة العلنية إلى الحروب والعمليات الحربية السرية الصغيرة، يبدو أنها هي الأخرى تتجه إلى مآل الإخفاق نفسه الذي حصدته سياسة سلفكم الرئيس جورج دبليو بوش، خصوصاً على المستويين السياسي والأخلاقي، مع أن السياسة الجديدة استهدفت تقليل خسائر الولايات المتحدة على هذين الصعيدين تحديداً . فالسياسة الجديدة التي تعتمد على “العمليات القيصرية” السرية التي تنفذها طائرات ال “درون” الموجهة عن بعد من دون طيار، وقوات خاصة مشتركة للبنتاغون وال “سي آي إيه”، لم تنجح في إخفاء طابع العربدة في الأجواء والاستخفاف بالحدود السيادية للدول وبأرواح السكان في البلدان/مسرح تنفيذ تلك العمليات .
 
فأمام تكرار مثل هذه الجرائم البشعة كيف للناس يا فخامة الرئيس، أن يصدقوا أن هذه “الحوادث الفردية المنعزلة” لا تعكس حقيقة الصورة الناصعة والمحترمة للقوات المسلحة الأمريكية؟ إن أوساط الرأى العام في العالم لم تنسَ جرائم الجيش الأمريكي في سجن أبو غريب في العراق، والأساليب الوحشية التي مارسها سجانو معسكر غوانتانامو التابع للجيش الأمريكي بحق المعتقلين فيه .
 
ثم كيف يستقيم ما تفضلتم به من أن الأصل هو نصاعة مناقبيات وعلو ضابط المؤسسة العسكرية الأمريكية، وأن ما حدث هو استثناء؟ كيف يستقيم مع التقرير الذي أصدره الجيش الأمريكي أخيراً والذي كشف عن ارتفاع قياسي في معدلات انتحار الجنود بالقوات المسلحة الأمريكية وارتفاع في معدلات الاعتداءات الجنسية من قبل الجنود ضد المجندات الأمريكيات بنسبة 30% في عام 2011 الفائت؟ وأنه وفقاً لما صرح به نائب رئيس الأركان بيتر تشارلي لصحيفة “نيويورك تايمز” في 19 يناير/كانون الثاني ،2012 فإن عام 2009 شهد انتحار 162 جندياً وعام ،2010 انتحر 159 جندياً، وعام 2011 انتحر 164 جندياً، وهو ما يعد الرقم الأكبر على الإطلاق في تاريخ الحروب الأمريكية، وأنه إذا ما أضفنا إليهم المنتحرين في الحرس الوطني ووحدات الاحتياط، يرتفع الرقم إلى 276 جندياً .
 
لابد إذاً، والحال هذه، أن هنالك خللاً ما يعتور أنساق القيم ومدونة السلوك الضابطة عادة لعمل المؤسسات الأمنية وكل الأفراد العاملين فيها من دون استثناء، وإلا لما تكررت مثل هذه “الحوادث” الرهيبة . ولعل هذا ينهض بحد ذاته سبباً كافياً لاستمرار النظرة العدائية للسياسة الخارجية الأمريكية والمتشككة في نواياها رغم محاولة إضفاء تغييرات محسوسة على وجهها الخارجي لتجميلها .
 
23 مارس 2012