المنشور

في لُجة ” الانترنت “


هناك حركات لا يمكن إلا أن تأخذ الطابع العالمي، طبيعتها تحمل في ثناياها فكرة التضامن بين المنخرطين فيها، وهي إن انطلقت من بيئات محض محلية، فسرعان ما تجد حركات قرينة لها في أماكن أخرى من الكوكب، تفكر بالطريقة ذاتها، وربما تستخدم الآليات نفسها في العمل والتعبئة.
 
منذ القرن التاسع عشر وربما قبله لم يكن من الممكن أن يجعل العمال على مستوى أوروبا وأمريكا وأستراليا وسواها من يوم العمل ثماني ساعات فقط، بعدما كان يمتد نحو نصف اليوم أو أكثر لولا التضامن بين عمال هذه البلدان.
 
في ظرف اليوم ازدادت هذه الفكرة رسوخاً، فآليات العولمة، رغم أنها في الجوهر عنت تدويل رأس المال العالمي وفتح الأسواق وتحويل العالم برمته إلى سوبر ماركت واحد كبير يبيع ذات السلع وفي كل مكان، إلا أن العولمة حملت معها نقائضها أو فلنقل أعراضها الجانبية كتلك الآثار الناجمة عن تناول دواء ضد مرض معين، فيحدث أن يحمل معه آثاراً أخرى على جسم المريض لا فكاك له منها إن أراد تناول هذا الدواء.
 
ولم تعد حركة العمال والفئات المهمشة وحدها هي التي تحمل الطابع التضامني العالمي، وإنما هناك حركات أخرى لا تقل أهمية كالحركة النسوية وحركة مناهضة الفقر، وفي مقدمة هذه الحركات حركة الدفاع عن البيئة، التي أنشأت ما يشبه «الأممية» الخضراء الجديدة التي تعم العالم، في مواجهة المخاطر المحدقة التي تواجه الحياة بسبب استنزاف ثروات الكوكب التي ستفنى إذا ما استمرت معدلات الاستهلاك الجنوني الراهنة.
 
في «ما لا تقوله الكلمات»، وهو كتاب يقدم بعض الطرق للحد من سوء تفاهم الثقافات، يلاحظ واضع الكتاب أن فضائل العولمة يبشر بها أولئك الذين يفيدون منها، أي أولئك الذين في متناولهم السفر من طرف الكوكب إلى طرفه الآخر، وبالملاحة في فضاء الانترنت، والذين يفيدون من المبادلات العالمية لمنتوجات وخدمات اقتصادية، تقنية وفكرية وفنية.
 
مع ذلك، فلنراهن على أن المضمون الفعلي لما هو عملي وما هو محلي يختلف اختلافاً ملحوظاً. إن شاباً عاطلاً عن العمل في الهند أو حتى في أمريكا ذاتها لا يمكن أن يفكر بالطريقة التي يفكر فيها موظف كبير في البنك الدولي، لكن وسائط الاتصال الحديثة جعلت من بشر مختلفين يعيشون على أراضٍ مختلفة يتبادلون الآراء حول أفكار واحدة.
 
في ظروف اليوم تستطيع الفكرة أن تعبر المسافة من قارة إلى أخرى في برهة أو طرفة عين. ملامسة إصبع لآزرار جهاز «آي فون» أو «آي باد» تجعل هذه الفكرة تطير بسرعة الضوء إلى أي مكان تريد.
 
صحيح أن تضاريس الواقع هي أشد سماكة وصلابة وواقعية من شفافية وسائط العالم الافتراضي، والواقع لا يتغير قبل نضج عوامل تغييره الواقعية، ولكن بوسع الفكرة الافتراضية أن تحفر بسرعة غير معهودة في هذا الواقع، فتؤسس لمعطيات جديدة لا تخطر على بال.
 
بقي أن نختم بالقول: الفكرة يمكن أن تضيع في لجة»الانترنت»، فهي لوحدها لا تغير، إن لم تجد من يتبناها ويروج لها. ما أكثر المروجين، ما أوسع التضاد في أهدافهم.



7 مارس 2012