المنشور

مكامن النص العظيم


لم يكن جان بول سارتر وهو الفيلسوف والمثقف الكبير والأب الروحي للشبيبة الثورية في الستينات قد قرأ نيتشه الفيلسوف الألماني الشهير الذي تطبق شهرته الآن الآفاق، كما ان سارتر لم يقرأ من مؤلفات فرويد سوى مؤلفين فحسب، ولم يعرف من مؤلفات هيغل إلا ما وضعه هذا الأخير عندما كان شاباً.
 
هذه معلومات تنقلها رفيقة سارتر سيمون دو بوفوار. لكن هذا لا يرد أبداً في نطاق النقد لسارتر. حياة الانسان، حتى لو كان فيلسوفاً لامعاً مثل سارتر، لا تتسع للاطلاع على كل شيء. لكن هذه المعلومات وردت في سياق آخر، هو سياق الترجمة.
 
كان على أعمال نيتشه وهيغل وفرويد أن تكون مترجمة الى الفرنسية، وهي كانت كذلك فعلاً، ولكن ليس بصورة تامة وانما انتقائية، وحتى حين تمت ترجمة أعمالهم كاملة، هم وسواهم من عمالقة الفلسفة الألمان، فإن ذلك لم يعد نهائياً. الباحث والمترجم العراقي الذي أعاد ترجمة أجزاء من كتاب كارل ماركس الشهير: «رأس المال»، قال انه حين قرأ، وهو لما يزل شاباً، الترجمة العربية للكتاب التي وضعها محمد عيتاني لم يفهم منها شيئاً، وبدا له الكتاب أوضح وأسهل حين أخذ في قراءته بالانجليزية في عمر لاحق. وهذا بدوره يطرح سؤالاً: هل الترجمات السابقة كانت سيئة أم ان اللغة من حيث كونها كائناً حياً تتطور وتتسع وتتغذى بمصطلحات وافكار جديدة تجعلها اكثر مقدرة على تقديم الأفكار في اللغات الأخرى بصورة أفضل.
 
ولأننا في اللغة، هل يبدو المتنبي مثلاً أقرب إلى قرائه العرب اليوم اكثر من قرائه في عصره وفي العصور اللاحقة. المؤكد انه اليوم مقروء أكثر بسبب مهم هو ان دواوينه تطبع بآلاف النسخ وهكذا كان متعذراً في السابق، وبالتالي فإنه يُعرف بصورة أوسع مما كانت عليه في زمنه وفي ما تلاه من أزمنة، ولكن هذه المعرفة الأوسع له تيسر كذلك اكتشافه من جديد مرة ومرات.
 
قارئ اليوم المزود بأدوات معرفة جديدة وبذائقة جديدة يرى في المتنبي أشياء جديدة لم يكن بوسع مجايليه أن يروها، وهذه آية النص العظيم، الذي هو كالحجر الكريم الذي يزداد تألقاً مع الزمن، ولا يبلى.
 
ونحن هنا نتحدث عن المتنبي بصفته شاعراً عربياً، ولنا أن نتخيل حال شعر المتنبي وهو ينقل الى لغات أخرى، ألن تكون الترجمات نفسها متفاوتة العمق والمستوى أخذاً بعين الاعتبار ما يتيسر للمترجمين من أدوات ومعارف على مرّ الزمن. ثم ان الترجمة تؤسس في اللغة التي تترجم إليها نصوص من لغات أخرى تراثاً ينبني عليه، لأن ما يسمى بالأمانة في الترجمة ليس أكثر من «قدرة المؤلف على أن يفصح عن حنينه الى ما يتمم لغته ويكمل نقصها» كما يذهب الى ذلك أحد الدارسين.
 
هذه الأفكار ربما تقود الى سؤال: أليست هناك حاجة لترجمات عربية جديدة لأعمال فلسفية أو فكرية أو إبداعية أجنبية سبقت ترجمتها، لأن العدة الفلسفية والفكرية وحتى الإبداعية في فضائنا اللغوي العربي أوسع أفقاً وثراء مما كانت عليه، لتكشف مكامن بريق جديدة في الأحجار الكريمة؟!
 
6 مارس 2017