المنشور

القِــيل والقــال


يفترض أن «القيل والقال» ليس هو التاريخ، السياق الذي يرد به هذا التعبير يجعله أقرب، في أذهاننا، إلى الإشاعة أو الادعاء بغير الحقيقة، وأحياناً تزييفها. أكثر من ذلك فإن «القيل والقال» ليس رأياً منفرداً، أو بضعة آراء منفردة، وإنما هو حشد هائل لا نهاية له من الأقوال، بعضها يكتسب طابعاً جدياً حين يقدر له أن يرسخ في التداول، فلا يعود بالوسع تجاهله، دون أن يضفي عليه ذلك طابع الصرامة أو الرصانة التي يجب أن تكون عليهما الحقيقة.
 
ويفترض أن التاريخ، أو كتابته، تقتضي الأمانة والدقة والصرامة في سرد الوقائع، لكن الأمور هنا شديدة النسبية، فالزاوية التي يتناول بها أحدهم رواية التاريخ هي ما توجه روايته وُجهةً معينة، تحملها على مدلولات تتسق ورؤية الراوي، حتى وإن سعى أو تظاهر بالموضوعية والأمانة في دقة رواية ما حدث.
 
ليست الفكرة في سرد ما جرى، إنما في تأويله، والسرد، على حياديته الظاهرة، هو شكل من أشكال التأويل، لأنك حين تسرد واقعة من الوقائع كما تفهمها، تكون أضفيت بطريقتك تأويلاً عليها. التاريخ هو ما مضى، هو الأحداث وقد وقعت، أما «القيل والقال» فيحضر في الراهن أيضاً. حياتنا اليومية في أدق التفاصيل محاطة بالقيل والقال، بالإشاعات والتخمينات، والإشاعة والتخمين يحتملان الكذب والخطأ كما يحتملان الصدق والحقيقة، فمفردة الإشاعة، رغم ما تشي به عند النطق بها بأنها رديف الكذب أو عدم الدقة، ليست كذلك دائماً، فما أكثر الإشاعات التي تشف عن حقائق، وما أكثر الوقائع التي تبدأ بإشاعات سرعان ما تكشف الأيام صحتها.
 
لكن المشكلة ليست هنا، المشكلة تنشأ حين يصبح «القيل والقال» هو التاريخ، على نحو ما يذهب اليه كاتب معروف هو اوسكار وايلد الذي يرى أن «القيل والقال» فاتن، وأن التاريخ ليس سوى «القيل والقال»، وأن «الحقيقة هي (قيل وقال) جعلتها مبادئ الأخلاق مضجرة».
 
ازاء مثل هذا الاعتقاد نجد أنه حين يمر الوقت على الحدث فيصبح تاريخاً، دون أن نتبين إزاءه الخيط الأبيض من الخيط الأسود، أي ألا نجزم بمدى صحة ما جرى، فيغدو «القيل والقال» هو الحقيقة، رغم أنه ليس بالضرورة كذلك، وإنما هو أهواء متضاربة تعبر عن أمزجة ومصالح متناقضة، فالتاريخ لم يكن يوماً تاريخاً واحداً وانما هو عدة تواريخ، ولم يكن المؤرخون ولن يكونوا مجردين من الأهواء مهما إدعوا ذلك، فلا يمكن للرواية التاريخية أن تكون حُرة من أهواء من يرويها، ناهيك عمن يؤولها.
 
ستبدو فداحة هذا الموضوع ماثلة أمام أذهاننا ليس فقط حين العودة إلى وقائع التاريخ المختلف عليها، وكان هذا الاختلاف منبع اشتباكات ثقافية ودينية وسياسية، وأحياناً منبع حروب بين الأقوام أو حروب أهلية داخل البلدان، وانما أيضاً حيال قراءة أحداث الحاضر التي تمر أمام ناظرينا، فرغم أنها تجري الآن، ولكن الاختلاف لا يدور حول تأويلها، وانما أيضاً حول حدوثها من عدمه، حين يبلغ الأمر حد نفي الواقعة التي ثبت وقوعها، لأن في النفي برهان إدانة أو برهان براءة، وليس من مصلحة الناكرين أن يستقيم هذا البرهان.