المنشور

تنشيط المؤسسة الأمنية مقابل “ترشيق” انفاق المؤسسة العسكرية


أمام تفاقم أعباء ومشاكل الدين العام (يوازي القيمة الاجمالية للناتج المحلي الاجمالي) ومشاكل عجز الموازنة العامة، لم تجد الولايات المتحدة الامريكية في عهد الرئيس الحالي باراك أوباما بُداً من تقليص ميزانية الدفاع ذات الأرقام الانفاقية الفلكية (خفض بقيمة اجمالية يبلغ 487 مليار دولار على مدى عشر سنوات اعتبارا من عام 2013). وبما ان هذا الاجراء الاضطراري لا يتوافق مع سياق ممارسة دور الدولة العظمى الأولى وحرصها على استمرار دورها القيادي العالمي، فقد اهتدى المخططون الاستراتيجيون الى مقاربة تُزاوج بين “ترشيق” (تنحيف) الانفاق العسكري وبين تفعيل (زيادة فاعلية ونشاط) المؤسسة العسكرية والأمنية، وذلك بالمزاوجة الحصيفة والمتكاملة بين عمل مؤسسة البنتاجون (وزارة الدفاع) وعمل وكالة المخابرات المركزية الامريكية “سي.آي.ايه” في انجاز مهام سرية منسقة خارج حدود الولايات المتحدة.
 
ولهذا الغرض قام الرئيس أوباما في شهر مايو من العام الماضي بنقل مدير وكالة الاستخبارات المركزية الامريكية ليون بانيتا الى وزارة الدفاع لشغل منصب وزير الدفاع محل روبرت جيتس واعادة قائد القوات الامريكية في أفغانستان الجنرال ديفيد بترويس من أفغانستان الى واشنطن ليحل محل بانيتا مديرا للـ”سي.آي.ايه”. فلقد كان بانيتا ابان قيادته للـ”سي.آي.ايه” قد حولها الى مؤسسة شبه عسكرية بتصعيدها الهجمات الجوية بطائرات الأزيز غير المأهولة (Drone aircraft) ضد عناصر تنظيم القاعدة في المناطق القبلية الجبلية على الحدود الباكستانية الأفغانية، وزيادة عدد القواعد السرية والعمليات السرية في مناطق نائية ومنعزلة من أفغانستان واليمن والصومال.
 
أما الجنرال بترويوس فقد قام من جانبه بتعميق صلات المؤسسة العسكرية مع المؤسسة الأمنية لاسيما الـ”سي.آي.ايه” وتداخلها مع قياداتها العليا، وذلك باستخدام قوات عمليات خاصة وشركات أمن خاصة للقيام بأعمال تجسسية سرية. وبوصفه رئيسا لأركان الجيش الأمريكي منذ سبتمبر 2009، فقد أصدر تكليفا سريا لقوات العمليات الخاصة القيام بعملية جمع معلومات في دولتين عربيتين وايران. والنتيجة انه صار من الصعب التفريق بين المؤسستين العسكرية والاستخباراتية وهما تنفذان العمليات السرية في منطقة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، ما استدعى بعض الأصوات الخافتة في الكونغرس اصدار بعض التحذيرات من عدم معرفة حجم ونطاق تلك العمليات التي أبعدت البنتاجون والـ”سي.آ.ايه” عن دئرة المحاسبة وتحمل مسئولية عواقب العمليات التي تنفذها الجهتان في العراق وأفغانستان وباكستان وليبيا واليمن. ولكن وبسبب اعتماد هذه العمليات السرية المشتركة (للبنتاجون والسي.آي.ايه”) على اختراق وانتهاك سيادة الدول، فقد كان لابد وأن تتسبب في حدوث “احتكاكات” سياسية، بعضها علني وبعضها الآخر خفي، بين واشنطن والدول التي تنفذ العمليات على أراضيها، كما حدث مع باكستان، حيث أدت الاستباحات الدائمة والمفضوحة لأجوائها الى توتر في العلاقات بين الدولتين الحليفتين استراتيجيا. ففضلا عن الاشكالات القانونية التي بات يثيرها هذا الاندغام العملي لعمل الجيش مع العمل الجاسوسي والتساؤلات التي يطرحها ومنها خصوصا ما اذا كان الجواسيس يحظون بنفس الحماية القانونية التي يحظى بها الجنود المشاركون في العمليات السرية!..وفي الجانب الآخر فان بعض العاملين في الـ”سي.آي.ايه” راح يعبر عن قلقه من ان الوكالة التي حافظت تاريخيا على طابعها المدني قد تمت عسكرتها وذلك من خلال الزج بها في الهجمات الصاروخية التي تنفذها بانتظام خارج الحدود لاسيما في باكستان واليمن والصومال، باعتبارها الاستراتيجية الحربية التي تشكل حجر الزاوية في سياسية أوباما الخارجية، في الشق العسكري منها. وبنفس القدر تثير هذه العمليات قلقا لدى بعض دوائر البنتاجون، فكلما ازداد استخدام الجنود في هذه العمليات ازدادت فرص تعرضهم للاعتقال من قبل حكومات البلدان/مسرح تلك العمليات، فضلا عن فرص ضبطهم متلبسين بانتهاك اتفاقيات جنيف.
 
ولكن يبدو ان جميع هذه المخاوف مأخوذه في حسبان مصممي هذه الاستراتيجية التي وضعتها ادارة الرئيس أوباما موضع التنفيذ بديلا عن الحروب الواسعة النطاق، البالغة الكلفة والجالبة للسخط على الولايات المتحدة. انما بطبيعة الحال ليس كل المحاذير، فهذه الاستراتيجية الحربية الساخنة، ذات الأمد القصير والتي لن تكون بديلا لاستراتيجية شن الحروب واسعة النطاق عندما يتحسن وضع المالية العامة للبلاد، تمثل عودة لاستراتيجية “فرق الموت” (Death Squad) التي مارستها واشنطن في بلدان أمريكا الجنوبية ضد الحركات والأحزاب والنشطاء اليساريين خلال ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، حيث شكلت المؤسسة الأمنية والعسكرية الامريكية ما سمي بفرق الموت السرية بالتعاون والتنسيق مع الأنظمة الدكتاتورية والفاشية الحاكمة الحليفة لواشنطن في أمريكا الجنوبية، مهمتها القيام بعمليات تعقب وخطف وتصفية القيادات والنشطاء اليساريين، راح ضحيتها مئات الآلاف من الأشخاص، ولازالت آثارها غائرة ندوبا في المجتمعات اللاتينية حتى بعد مرور أكثر من عقد على انهيار الدكتاتوريات السوداء هناك.
 
وهكذا يمكن القول ان ادارة الرئيس أوباما استطاعت ان تطوي صفحة عقد من الحروب التي شنتها ادارة سلفه الرئيس السابق جورج دبليو بوش، وتعتمد عوضا عنها استراتيجية حماية الأمن الوطني واستعادة الدور القيادي للولايات المتحدة في العالم، وهي استراتيجية أُعلنت خطوطها الرئيسية في 27 مايو 2010 وتتضمن حماية وتعظيم المصالح الامريكية وتوفير الامن للمواطنين الامريكيين، وتنمية الاقتصاد الامريكي، ودعم القيم الامريكية وترويجها، واقامة نظام عالمي يستطيع مقابلة تحديات القرن الحادي والعشرين، ومنها ضمان عدم وقوع الأسلحة النووية في أيدي الارهابيين، وتسويق وتشجيع السلام والامن لاسرائيل والشرق الاوسط، واعادة تنشيط علاقات التحالف الامريكية سواء في اطار الناتو أو خارجه.
 
هذا لا يعني ان الاستراتيجية العسكرية الامريكية المكرسة لخدمة أهداف السياسة الخارجية الامريكية، أصبحت أقل حربية وانما أصبحت أكثر ميلا للتخفف من الأعباء المالية والسياسية والأخلاقية الناتجة عن المشاركة في الحروب والمجابهات العسكرية العلنية والواسعة النطاق، كما حدث في حرب الناتو الأخيرة لاطاحة نظام معمر القذافي، حيث كانت المشاركة الامريكية جزئية ومواكبة للمشاركة الاوروبية الرئيسية في تلك الحرب. وهذا لا يعني أيضا انها ستكون أقل مدعاةً واستدعاءً لسخط الآخرين على نواتج السياسات الامريكية “الاقتحامية”، فالعمليات “السرية”  المشتركة والمنسقة للبنتاجون والسيي.آي.ايه في باكستان، أدت الى توتر العلاقات بين البلدين، وهو توتر يمكن تحسس صداه في ردة فعل كبار ضباط الجيش الباكستاني حين توجه اليهم السفير الباكستاني في واشنطن عندما كان يحاضر فيهم في “الجامعة الباكستانية للدفاع الوطني” في العام المنصرم، عن أكبر عدو لباكستان، أجاب ثلثهم: “الولايات التحدة الامريكية”!