المنشور

شقاء الوعي


إلى جان بول سارتر تنسب المقولة الشهيرة في تعريف المثقف بأنه الشخص الذي يقوم بمهامٍ لم يكلفه بها أحد. لم يكن سارتر يسخر، بل كان أميل إلى الشفقة على هذه الفئة المبتلاة من البشر، التي وصفها بأنها “الضمير الشقي”.
 
 أما كيف يكون المثقف ضميراً شقياً، فذاك ما نجد جواباً له قاله، قبل سارتر، الروائي الشهير ديستوفسكي في كتابه “ملاحظات من العالم السفلي”، حين سعى للتفريق بين نمطين من البشر: نمط يتأمل ونمط يفعل.
 
 يقول ديستوفسكي: “أقسم يا سادة أن شدة الوعي مرض، ومن يستطيع أن يفخر بمرضه؟ هل تعرفون، يا سادة، ربما أعتبر نفسي إنساناً ذكياً فقط لأنني لم أتمكن طيلة حياتي أن أبدأ أو أكمل أي شيء”.
 
يمكن للوعي أن يتحول الى مشكلة حقيقية، ويعوذ المرء بنفسه أن يمجد الجهل، ولكن الجهل يبدو في لحظة من لحظاته، بل إنه غالباً، ما يتحول الى نعمة بالنسبة لصاحبه. الإنسان الجاهل، أو الجاهل بالأمور إن أردنا تعبيراً أكثر تهذيباً، هو شخص قنوع راضٍ دائماً عما حوله، إنه بالأحرى لا يشغل باله بالبحث أو التنقيب أو التساؤل أو التحري، كل ما هو معطى هو حق بالنسبة له غير قابل للجدل أو النقاش، أما الإنسان المصاب بلوثة الوعي فإنه إنسان حائر، قلق، يطحنه التمزق بين وعيه وبين ما يراه أو يعيشه. “إن الوعي الزائد يمكن أن يكون عدواً يتربص في الأعماق، الوعي يمكن أن يكون عذاباً وجحيماً أرضياَ” هكذا تقول إحدى الكاتبات.
 
يحدث ذلك لأن الوعي بالأشياء يخلق حرقة، فهو مبني على رغبة تصد دائم في البحث عن الأفضل والأحسن والأجمل والإنسان الواعي له نظرة أبعد وأشمل، تتخطى المعاش وتتطلع نحو البعيد. نظرة تفحص تحلل وتقارن وتنقد وتقترح البديل، لكن الوعي منبوذ دائماً شأنه شأن كل القيم والقضايا الجميلة.
 
 وللواعين دائماً حاسة نقدية إزاء الظواهر والقضايا. إنهم يمتلكون تلك المقدرة المدهشة في النفاذ الى عمق الأشياء، إلى جوهرها، ولديهم الجرأة والشجاعة على الإمساك بالجمر ضريبة بحثهم عن الحق وعن الحقيقة، وهم اذ يلقون بأنفسهم في خضم المجهول، فذاك لأنهم لا يقيمون كبير وزن لما عليهم أن يتحملوه لقاء انسجامهم مع ذواتهم، في مواجهة الزائف والهش والمبتذل والسوقي والتافه والسطحي والاستعراضي.
 
 إبن خلدون، وهو يسعى لتصنيف المثقفين (العلماء بلغته ولغة عصره) في “المقدمة”، وضعهم في خانة الخاصة لا العامة، لكنه ذهب المذهب نفسه حول شقاء المثقف، فقال: “اشتهر بين الناس أن الكامل في المعرفة محروم من الحظ، وأنه قد حوسب بما رزق من المعرفة، واقتطع له ذلك من الحظ”.
 
وفي كتابه ” تكوين العقل العربي”، خصَّ محمد عابد الجابري هذه الفئة بفصل كامل عنْوَنهُ ب”الأعرابي صانع العالم العربي”، قال فيه:”مع تزايد الإقبال على الأعرابي والتنافس عليه والاجتهاد في استرضائه أخذ يكتسب وعياً بأهمية وقيمة نطقه، وأصبح يشعر أنه يملك شيئاً قابلاً لأن يُطلب له الثمن”، ويحدثنا التاريخ عن أعراب رحلوا إلى البصرة أو إلى الكوفة للإقامة فيها كرواة للغة وباعة للكلام.
 
 هؤلاء الباعة لم ينقرضوا، مثلهم يوجد الكثيرون حتى اليوم.