المنشور

هل يمكن لإقتصادات العجز والمديونيات التغلب على أزمتها


كما هو معروف فلقد تحولت العجوزات المتراكمة في الموازنات الحكومية العامة وفي الحسابات الجارية لكل من اقتصاد الولايات المتحدة الأمريكية واقتصادات عدد من البلدان الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، إلى ديون سرعان ما اتخذت شكل أزمات مالية مزمنة، بسبب تواضع أدائها الاقتصادي الذي لا تتناسب طاقته على توليد معدلات نمو اقتصادي كافية لتغطية احتياجات عملية إعادة الإنتاج البسيطة (أي تأمين كافة الاحتياجات الاستهلاكية السنوية عبر إنتاج ناتج محلي لا يقل عن تلك الاحتياجات، مع سياسة التمويل العجزي التي تتبعها، وهي عملية إنتاجية لا يتجاوز مفعولها تحقيق نقطة التعادل “Break-even” بين إنتاج واستهلاك إجمالي الناتج المحلي). ولكن الاقتصاد بحاجة إلى ما هو أكثر من عملية إعادة إنتاج بسيطة انه بحاجة إلى عملية إنتاج موسعة، تحقق فائضاً لتغطية العجوزات المتراكمة للسنوات السابقة والتي تمت تغطيتها بالاستدانة.
 
تنتج الولايات المتحدة سنوياً ناتج إجمالي يبلغ إجماليه 14.7 تريليون دولار (2010)، في حين أن عجوزاتها – الناتجة كما قلنا عن هشاشة نموها وضعف طاقتها على توليد الفائض – قد راكمت ديون سيادية عليها بلغ إجماليها في يونيه الماضي 14.5 تريليون دولار.
 
الاتحاد الأوروبي الذي يضم 27 دولة أوروبية نجح في إنشاء منطقة نقدية تضم 17 دولة من أعضائه ينتظمها نظام نقدي موحد قوامه عملة أوروبية موحدة “يورو”، هو اليوم في وضع مالي لا يقل دقة وحراجة عن الوضع المالي المتأزم للولايات المتحدة. فلم تكن تمضي عشرة أعوام ونيف على إنشاء منطقة اليورو (في عام 1999)، حتى أصبحت هذه المنطقة النقدية وعملتها (اليورو) في خطر داهم. ففي 2 مايو 2010 اضطرت دول منطقة اليورو بالاتفاق مع صندوق النقد الدولي لترتيب حزمة إنقاذ مالي سريعة لليونان بقيمة 110 مليار دولار، وبعد مضي بضعة شهور (في نوفمبر 2010) اضطرت أيضاً لإنقاذ أيرلندا من ا لإفلاس بصفقة إنقاذ بلغت 85 مليار دولار، سرعان ما تبعتهما البرتغال في مايو 2011 بصفقة إنقاذ بلغت قيمتها 78 مليار دولار. ولازال الحبل على الجرار، ولازالت اليونان بهشاشتها الاقتصادية والمالية تهدد الوحدة النقدية الأوروبية. وهناك أسبانيا وإيطاليا وبلجيكا في الطريق. (شكل إجمالي الدين العام الأسباني في عام 2010 60.1% من إجمالي الناتج المحلي، واليونان 142.8%، وإيطاليا 119%، والبرتغال 93%، وأيرلندا 96.2%، وألمانيا 83.2%، وفرنسا 81.7%، وبريطانيا 80%، وبلجيكا 100%.
 
صحيح أن الاتحاد الأوروبي يحتكم اليوم على ناتج محلي يبلغ إجماليه السنوي 16.2 تريليون دولار، ما يضعه في المرتبة الأولى عالمياً قبل الولايات المتحدة، إلا أن جبل الديون السيادية لا يترك مجالاً لتفعيل دورة النشاط الاقتصادي في اقتصادات بلدانه بكامل طاقتها.
 
ما العمل والحال هذه؟ هل يمكن لاقتصادات العجز والمديونيات التغلب على أزماتها؟
 
كما صار معلوماً فلقد استنفذت هذه الدول كامل “ذخيرة” أدواتها التي تعينها عادةً على “تضبيط” اختلالاتها الاقتصادية. فقد أطلقت دفعات من حزم التنشيط المالي من أجل بث الحياة في اقتصاداتها ومنعها من السقوط في دوامة الركود فكانت النتيجة تزايد جبل الديون. واستخدمت أدوات السياسة النقدية (سعر الصرف وسعر الفائدة أساساً) حتى وصلت أسعار فوائدها البنكية إلى حدها الأدنى، ولم يتبق لديها فسحة للمناورة، لا لدى صنَّاع السياسة المالية ولا لدى صنّاع السياسة النقدية. ولم يتبق أمامها سوى إصدار التطمينات على لسان كبار مسئوليها لتهدئة مخاوف الأسواق، وكذلك رؤساء البنوك المركزية، كما حدث قبل أيام حين سارع 5 بنوك مركزية أوروبية إلى الإعلان عن دعمها للمصارف التجارية الأوروبية المعرضة لخسارة قروضها التي أقرضتها للدول الأوروبية المدينة والمطالبة في ذات الوقت بالمشاركة في ترتيب حزم إنقاذ جديدة للحكومات المعسرة. أضف إلى ذلك بطبيعة الحال القوة العسكرية الضاربة التي طالما استندت إليها في تأمين وتعظيم مصالحها الاقتصادية عبر العالم.
 
ولذلك ليس أمام الطبقات السياسية الحاكمة في أوروبا والولايات المتحدة من سبيل سوى القبول بالواقع المستجد في ميزان القوى الاقتصادية العالمية، حيث فقدت ميزاتها التنافسية أمام “الصاعدين” الجدد – ليس أمامها سوى القيام بعملية إعادة بناء هيكلية يتم من خلهلا التخلي عن اصطناع طبقة وسطى بواسطة الإفراط في الإقراض السهل، والتوقف عن الاعتماد على الإقراض الاستهلاكي لتأمين النمو، والتنازل عن جزء كبير من الدخول المتاحة (Disposable incomes) المحققة للرفاه الاجتماعي، وتوجيه الاستثمار نحو بناء الطاقات التعليمية والمهارية والإبداعية الابتكارية، والاستثمار في البنية التحتية المتقادمة والجديدة وفي الإنتاج والبحث والتطوير (R&D). وهذا يتطلب مزيجاً من سياسات خفض الإنفاق (اتباع سياسة تقشفية رشيدة) وزيادة كفاءة الجباية الضريبية وعوائدها. وعلى أن تكون مثل هذه الإصلاحات بنيوية ومُمأسسة وليس مجرد إجراءات منعزلة كما أعلنت مثلاً اسبانيا قبل أيام من انها تعتزم فرض ضريبة خاصة على العقارات لدافعي الضرائب ممن تبلغ أصولهم 700 ألف يورو (959 ألف دولار) أو أكثر، و”ضريبة الثراء” على 160 ألف من دافعي الضرائب والتي كانت ألغيت في عام 2008.