المنشور

ثمار الفوضى الخلاقـة


الفوضى الخلاقة التي بشرت بها الإدارة الأمريكية السابقة لم تعد نهجاً أمريكياً فحسب، وإنما هي نهج تسير على خطاه قوى أخرى، لا يمكن أن تكون بريئة من الشبهات المثارة حولها، ترمي للدفع بالمنطقة في أتون نزاعات طائفية وعرقية تهدد الموزاييك البشري متعدد الانتماءات في منطقتنا، والذي إليه يعود الفضل في الكثير من أوجه الحيوية التي ميزت مجتمعاتنا العربية، فالتعدد والتنوع مبعث الديناميكية، والأحادية قرينة الجمود.
 
 لا يمكن النظر لاستهداف المسيحيين في العراق ومن ثم في مصر بعيداً عن هذا السياق، فالمطلوب إفراغ الشرق العربي من أحد أهم مكوناته، عبر حمل المسيحيين على الهجرة من بلدانهم، ويمكن لنا أن نفترض “سيناريو” مفزعاً لا يقل خطورة، هو حملهم على المطالبة بكيانات خاصة بهم تضمن لهم الحماية .
 
هل هي المصادفة وحدها أن دولة الجنوب السوداني التي نشأت مؤخراً نتيجة الانفصال عن شماله لتصبح دولة مستقلة، هي كيان مسيحي؟
 
هذا سؤال يجب التوقف أمامه، لا للانسياق وراء غواية نظرية المؤامرة، وهو الأمر الأسهل هاهنا لمن يريد ألا يرى الأوجه المتعددة لهذه المسألة، وإنما للتوقف جدياً أمام مسؤولية الثقافة السياسية السائدة عربياً في التعاطي مع ملفات بهذه الخطورة.
 
من مصلحة إسرائيل بالدرجة الأساسية وخلفها قوى كثيرة تريد لهذه المنطقة العربية أن تتفكك إلى مجموعة من الكيانات المذهبية والعرقية، فلا يعود بالوسع التفريق بين المتن والهامش، بين الثابت والطارئ. وبدل أن يجري التصدي لهذا المنهج الشرير، فإن سياسات عربية كثيرة سهلت وتسهل نجاح هذا السيناريو بالتقسيط وعلى دفعات.
 
تعزز ذلك ثقافة سياسية سائدة لا تقيم الاعتبار المطلوب لحقيقة ودور أقليات عدة في عالمنا العربي، بعضها يشاركنا الدين، وبعضها الآخر يشاركنا اللغة، ولكنها مشمولة بمسار التطور الحضاري الجامع لهذه المنطقة، الذي كانت الحضارة العربية الإسلامية واستمرت وعاءه الحاضن. رغم معرفتنا، على سبيل المثال، بأن بعض القيادات في جنوب السودان كان يروق لها خيار الانفصال منذ أمد، ولكن الجنوبيين ذهبوا إلى هذا الخيار تحت ضغط حروب فُرضت عليهم ممن يقررون الأمور في العاصمة السودانية، وتحت ضغط سياسة لم تراع أن السودان لا يقطنه المسلمون وحدهم، من دون التبصر في خطورة نهج كهذا لا يرضاه الإسلام نفسه.
 
وما يقال عن الجنوب يمكن أن يقال، رغم اختلاف الملابسات، عن إقليم دارفور السوداني، ويمكن أن يقال عن كردستان العراق، فلولا تعاقب الأنظمة التي حكمت من بغداد في قمع الأكراد قمعاً دموياً، ومصادرة حقوقهم الثقافية والسياسية عبر حكم ذاتي حقيقي، لما وجدنا إقليمهم اليوم فيما يشبه الكيان المستقل تماماً الذي لا ينقصه سوى الإعتراف الدولي.
 
للأسف الشديد فإن مصير الأوطان يقرن بمصير الحكام، فيصبح الحاكم مستعداً لمقايضة بقائه في الحكم بالتضحية بمصير الوطن، والهروب من حل القضايا الكبرى للأوطان عبر الهش بالعصا على الدهماء المجلوبة للساحات قسراً، لتبارك الخيارات المدمرة، التي تندفع نحوها الأوطان بجنون في غياب القرار الرشيد بمنع الإنزلاق نحو الهاوية.