المنشور

الربيع العربي باعتباره ماركة عربية مسجلة


تعليقا على الاحتجاجات الجماهيرية التي اندلعت في الولايات المتحدة تحت مسمى حركة “احتلو وول ستريت” التي سرعان ما انتشرت في أماكن مختلفة من العالم، وخلال لقاء جمعه منتصف شهر اكتوبر الماضي مع الرؤساء التنفيذيين لنحو 20 شركة عالمية بينهم روبرت دادلي رئيس شركة بي.بي، قال رئيس الوزراء الروسي فلاديمير بوتين: “ان الخطط الروسية لزيادة الانفاق الاجتماعي ستمنع اضطرابات مماثلة في روسيا”.

مثال آخر على هذا النوع من محاولة دفن الرؤوس في الرمال تقدمه ماليزيا الدولة المسلمة في جنوب شرق آسيا، حيث بقيت مجموعة من المتنفذين داخل “تنظيم اتحاد المالايو الوطني” الذي يهيمن على السلطة في ماليزيا ويحتكرها منذ خمسة عقود “بفضل قبضته الفولاذية المشرّعة في وجه الاقليات العرقية والدينية، لاسيما الصينية والهندية – بقيت مجموعة متنفذة داخل حزب الأغلبية المالاوية تعتقد انه بامكان ماليزيا تفادي رياح التغيير التي هبت على أنظمة الحكم في العالم العربي.
ولعلنا نتذكر ان أحمد أبوالغيط، آخر وزير خارجية لمصر في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك، قال في أحد تصريحاته تعليقا على امكانية انتقال رياح التغيير التي هبت على تونس عبارته الشهيرة “ده كلام فارغ”!

ولكن دوام الحال من المحال، وشتان ما بين التمني أو التفكير الرغائبي (Wishful thinking) كما تذهب توصيفات علم العلاقات الدولية وعلم ادارة الازمات، وما بين قوانين التطور الاجتماعي ومنها قانون وصول “الجديد” الى قناعة باستحالة العيش بنمطية “القديم”.
في مصر رأينا كيف ان الاحداث لم تمهل كلمات أبوالغيط المكابِرة وتعطيها الفسحة المطلوبة من الوقت لبث الطأنينة في نفوس الكثيرين الوجلين آنذاك من المجهول، اذ سرعان ما أصبح هو والنظام الذي عمل لديه، جزءا من الماضي.

وفي روسيا فان البحبوحة النسبية التي نجح النظام المركزي القوي الذي أشاده رجل المخابرات الروسية السابق فلاديمير بوتين على انقاض أطلال النظام البائس الذي أداره الرئيس الراحل بوريس يلتسن، وذلك بفضل عوائد مصادر الاقتصاد الريعي (النفط والغاز ومواد الانشطة التعدينية) – فان تلك البحبوحة لم توفر لرئيس الحكومة فلاديمير بوتين الذي يتهيأ للعودة لمنصب الرئاسة لفترة رئاسية ثالثة في انتخابات هذا العام، مأمنا من موجة الاحتجاجات الشبابية والشعبية التي تجتاح العالم على وقع استمرار تداعيات الازمة المالية العالمية التي عصفت بالاقتصاد العالمي في الفصل الثالث من عام 2008. فالهيكلية السياسية التي أنشأها بوتين وميَّز فيها وضع حزب روسيا الموحدة بصورة استثنائية واحتكارية في النظام السياسي الروسي الجديد، على نمط فلسفة الحزب الوطني في مصر حسني مبارك، قد أفضت بسرعة، “بفضل” آفة الفساد، الى تحويل حزب روسيا اليوم الى بيت يضم كبار رجال الاعمال والمتنفذين وبالطبع قطاعات واسعة من الطبقة الوسطى الصاعدة في روسيا مع انتقال روسيا الى مصاف الاقتصادات الصاعدة الرئيسة مثل الهند والبرازيل. واليوم غير الأمس، فالناس لن تصبر طويلا، كما في الماضي، على الاستبداد والاستئثار بالسلطة والثروة معا وتمتع جزء صغير من السكان بالجزء الاعظم من الثروة.

ولعل الأمر نفسه ينطبق على ماليزيا، فبعد أن امتد الزمن باستبداد حزب “اتحاد المالايو الوطني” واحتكاره للسلطة على مدى العقود الخمسة الأخيرة بذريعة تمثيله لغالبية السكان من المسلمين المالايو الذين يشكلون حوالي 60% من السكان، بدأ ضغط المعارضة الماليزية يزداد ويضيّق الخناق على الحزب الحاكم الذي سرعان ما اعترف بتنامي هذا الضغط من أجل التحول الى الديمقراطية الحقيقية وانهاء نظام الامتيازات العرقي التي (الامتيازات) تم تكريسها قانونيا لصالح من يوصفون في مليزيا بـ “البوميبوترا” (أي أبناء الأرض). ولما كان نظاما حصريا (حصر الامتيازات في المواطنين المالايو وحجبها عن باقي العرقيات)، فكان لابد وان ينتهي به المطاف ليكون انتقائيا حتى في حصريته، ما استدعى تململا ثم سخطا من جانب المالايو أنفسهم الذين راحو يشتكون من أن النظام (نظام الامتيازات) يتعرض للانتهاك من جانب نخبة فاسدة تسعى للتربح وتوسيع نفوذها وهيمنتها على الدولة ومؤسساتها ومرافقها، وهي هيمنة مستمرة منذ الاستقلال عام 1957.

زعيم “اتحاد المالايو الوطني” رئيس الوزراء الماليزي نجيب عبدالرزاق تعهد للمعارضة المتنامية والمتأثرة بحركة الاحتجاجات الشعبية الواسعة في العالم العربي، بأنه سوف يعلن عن اجراء انتخابات مبكرة (في غضون شهور) وانه سيعمل على الغاء قانون أمني قمعي يتيح للحكومة احتجاز المعارضين دون تقديمهم لمحاكمة وغيرها من وسائل القمع الاخرى. كما تعهد بالانتقال من الماضي الاستبدادي لماليزيا الى ما أسماه “ديمقراطية حديثة وناضجة”.

انما هذا وحده لن يكون، بطبيعة الحال، كافيا لتحقيق تلك الغاية ما لم يواكب ذلك تغيير المؤسسات التي ستنفذ القوانين والتشريعات والاجراءات الجديدة، لاسيما أجهزة الدولة ومؤسساتها ومنها المؤسسة الأمنية.

بدوره تعهد رئيس الوزراء الروسي فلاديمير بوتين بأنه سوف يجري حوارا مع المعارضة الروسية التي نظمت أكبر احتجاجات تشهدها روسيا منذ صعود بوتين الى السلطة في روسيا في عام 1999، حيث أدلى بتصريح للصحافيين بهذا الصدد قائلا: “يجب ان يُجرى الحوار. ماذا سيكون شكله؟ سأفكر في هذا”.

ولكن هذا التصريح كان يوم الاربعاء 28 ديسمبر 2011، فبعد يومين من هذا التصريح وعشية عيد رأس السنة الميلادية السبت 31 ديسمبر 2011 أوضح رئيس الوزراء الروسي (بوتين) في رسالة متلفزة الى الشعب الروسي (اعتاد الرؤساء الروس توجيه رسالة الى الشعب قبل الساعة الثانية عشر ليلا يوم الحادي  والثلاثين من ديسمبر/كانون أول من كل سنة بمناسبة انتهاء عام وحلول عام جديد، ولأن في روسيا الآن ثنائية القيادة فقد استجد، وبصورة استثنائية، قيام الرئيس ورئيس الوزراء بتوجيه هذه الكلمة) – أوضح فيما خص الاحتجاجات اياها قائلا: “بالطبع نحن نخوض دورة سياسية، وفي تلك الاوقات دائما ما يستغل السياسيون مشاعر المواطنين وتشهد الامور اضطرابا نوعا ما وفورة مشاعر”.

هو أيضا يعتقد ان بامكانه الاطمئنان الى الأداء الريعي الجيد للاقتصاد الروسي من دون ان يضطر لاحداث اصلاحات حتى مهندس النظام السياسي الذي أشاده بوتين ومنظره الرئيسي فلاديسلاف سوروكوف أقر بضرورة الاسراع في اقرارها وتنفيذها حين أدلى بتصريحات تعليقا على الاحتجاجات قال فيها: “ان أفضل الممثلين عن المجتمع يخرجون من الشارع”، وتساءل مستغربا : “من يرغب في الحفاظ على الفساد والظلم وصون نظام أصم ليزداد حماقة؟ لا أحد، حتى أولئك الذين يشكلون جزءً منه”. وقد تكون تصريحاته هذه هي التي عجلت باخراجه من الكرملين.

من كل هذه التجارب يمكن للمراقب أن يكثفها في عنوان عريض مفاده المماطلة والتسويف والتحايل السياسي، ولكأن الاصلاح والتطوير المُواكب لحركة الناس والحياة يمكن تجنبهما!

يبقى أن ننوه الى ان عدوى الاحتجاجات الشعبية الواسعة النطاق ذات الخصوصية العربية التي اكتسبت شهرةً واسما “كوديا” هو الربيع العربي، والتي انتقلت الى محطات عالمية واتخذت لها طابعا تدويليا، لم يتسن لمؤرخيها بعد تسجيلها كماركة عربية مسجلة رغم حصول بعض رموزها على تكريم وجوائز عالمية، فضلا عن حصول الربيع العربي نفسه كشخصية اعتبارية على اعتراف وتقدير عالميين، لاسيما على المستوى الاعلامي والاكاديمي.