المنشور

مفارقــات ليــس إلا…..!


مريعة هذه المفارقة التي سيظل تلمسها سهلا على الدوام، ونحسب ان الذين يتعاطون مع الشأن العام يدركون هذا، فهي باتت صورة من صور الهم العام، بيد ان هذه المفارقة ليست الوحيدة فيما يحصل على أكثر من صعيد ونجد في تقرير ديوان الرقابة المالية والإدارية مثالا ليس إلا..
 
وفي ذلك منتهى الكفاية، ففي التقرير مفارقات صارخة ومدهشة ومنها ما لا يخلو من سخرية، يمكن ان نستخلص منها ما نشاء من خلاصات أكاد ان أكون على يقين بأنها ستقودنا إلى الاعتراف بان ثمة قدر كبير من التلوث في واقعنا مازال موضع تجاهل مدهش لا يخفى على فطنة اللبيب..!
 
مفارقة حين نجد ان كل الخروقات والتجاوزات والمخالفات من كل نوع مالية وإدارية وقانونية والتي يرقى بعضها بحسب التقرير الى مستوى الجرائم الجنائية، سواء على صعيد المناقصات والمزايدات والمشتريات والمبيعات الحكومية، والميزانيات المعتمدة، او على صعيد إضعاف او تغييب أنظمة الرقابة الداخلية، والمشروعات التي أديرت خارج نطاق اللوائح الرسمية وما تيسر من التنفيعات السريعة وعلى المكشوف، بجانب المخالفات في التعيينات والترقيات وغياب مصداقية التقييمات الوظيفية.
 
كل تلك الخروقات والتجاوزات بالجملة والمفرق لم تؤد الى ظهور مسؤول واحد يقر بتحمله مسؤولية اي خطأ او خلل او قصور في سياساته او في أداء الوزارة او المؤسسة التي يديرها، لم نسمع عن ذلك، كما لم نسمع عن استقالة او إقالة مسؤول واحد على خلفية اي من الأخطاء والاخفاقات والتجاوزات الجسيمة، مع رجاء الانتباه ان ذلك هو قيمة شائعة في البلدان التي تفرض تطبيق المسؤولية الأدبية والسياسية على كل من يتولى مسؤولية عامة، ولا تجعل من اي مسؤول محصنا من المساءلات القانونية، ولا تعهد لمن اخطأ ومارس قدرا لا يستهان به مما يستوجب المساءلة بإعادة حساباته لكي يصلح الانحرافات التي هو مسؤول عنها، بل انها دول جعلت المحاسبة عنوان قوة وقدرة على تصحيح الاخطاء..!
 
يا ترى لو كنا نحاسب بمعيار المسؤولية الحقة كم من الأخطاء والخطايا الجسيمة والكوارث كان يمكن تفاديها وتجنبها، ويا ترى كم مسؤولا في موقع المسؤولية العامة سنكتشف ان عليه ان يتوكل ويرحل من المشهد طوعا او قسرا..!
مفارقة حين ينشد المرء دورا للنواب في معركة الفساد الظاهر والمستتر، في الوقت الذي يزداد الشك في جديتهم وقدرتهم على اتخاذ خطوات حازمة وحاسمة ورادعة، ويراهم يمارسون لعبة شراء الوقت وانتظار المجهول ليس فقط فيما يخص التجاوزات والانحرافات التي كشفت عنها تقارير ديوان الرقابة على مر السنوات، وانما ايضا حيال قضايا فساد شكلت في يوم من الايام قضايا رأي عام. كقضية الفساد الكبرى في «البا» كمثال ليس الا، وتكتمل المفارقة حين يعّول الناس على المؤسسة النيابية في القيام بدور في اجتناب الفساد ومواجهة الفاسدين والمسؤولين عن هدر المال العام، الا ان تقرير الرقابة الاخير فاجأنا بما ينطبق عليه المثل «باب النجار مخلع»، فهو يكشف عن قيام نواب مرشحين لانتخابات الفصل التشريعي الثالث كلفوا موظفين بمجلس النواب لتنظيم حملاتهم الانتخابية وقبلوا تمرير مبالغ بدل ساعات العمل الإضافي!! وهو امر اقل ما يمكن ان يقال عنه بانه في حد ذاته سيئ وأسوأ في دلالته، ناهيك عن عشرات المخالفات الادارية التي غض النواب النظر عنها، وذلك باب يورط نوابا في شبهات ولا يبعدهم عن نطاق التواطؤ والاتهام وهم النواب الذين احاطت بمعظمهم خيبة الامل من كل صوب.
 وتتوالى المفارقات واحدة تلو أخرى لنكتشف بان أصحاب السعادة النواب الذين يفترض ان يعملوا على توفير كل ما يعزز الدور الرقابي ويخلق تنوعا في الآليات الشعبية الفاعلة التي تقوم بهذه المهمة وتعمل على محاربة الفساد، هم الذين يعترضون على إنشاء هيئة وطنية لمكافحة الفساد، فلجنة الشؤون التشريعية والقانونية النيابية نفاجئ برفضها مشروع قانون الهيئة في اجتماعها في 20 ديسمبر الفائت بذريعة وجود عدد من القوانين والاعراف الدولية المطبقة فعليا على ارض الواقع والتي تجرم اعمال الفساد والحد منها، وبذريعة وجود عدد من الهيئات والمؤسسات القائمة، مع العلم ان الاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد التي صادقت عليها البحرين تجعل انشاء مثل تلك الهيئة من أولى ما تقتضيه تلك الاتفاقية.
 
 المشهد مسكون بمفارقات كثيرة، ومن بين ما يستحق الملاحظة، هذه المفارقة ذات الصلة هذه المرة بالجمعيات السياسية «16 جمعية»، فما أثير بشأن معظمها مثير لقائمة من علامات التعجب والاستفهام، خاصة بان هذه الجمعيات تطرح نفسها على أساس أنها تحارب الفساد ومن حملة لواء الدفاع عن المال العام وتطالب بالحفاظ على موارد الدولة، ولكن التقرير فاجأنا ان من بين هذه الجمعيات ما ارتكب مخالفات مست مشروعية أوجه صرف مواردها المالية، وغيبت الأنظمة المالية المعتمدة وتجاهلت الإمساك بسجلات محاسبية منتظمة تفرضها متطلبات أنظمتها الأساسية..!! وذلك امر لا يجب الاستهانة به فهو يثير في اقل التقديرات سؤالا لا ينبغي هو الآخر عدم الاستهانة به: هل يمكن ان تكون هذه الجمعيات مع الشيء ونقيضه في نفس الوقت؟!
 
في التقرير ثمة مفارقات اخرى كثيرة وصادمة قد تفجع المرء في التفاصيل وكثير منها تصدر عناوين الصحف، ولكن يهمنا بقدر اكبر هذه العينة المركزة من العناوين التي أبت إلا ان تفرض نفسها: مشاريع وزارة العدل تدار في كثير من الاحيان خارج القانون ترقى الى مستوى الجرائم الجنائية، وتواطؤ شركات مقاولات وتزوير للوثائق في مشاريع ومنشآت دينية، وترقيات لموظفين غير منضبطين، وصرف تذاكر سفر ومخصصات دون وجه حق، والقائمة طويلة من التجاوزات وهي تفرز اسئلة حساسة كثيرة يتهامس بها الناس، تجعلنا نتلقى من الغم جرعات مضاعفة، غير اننا ونحن نمعن النظر في تلك المفارقات لابد من تنويه وتذكير، تنويه بانه لم يعد مقبولا الارتهان لوعود بالمساءلة والحساب لا تتحقق ابدا ولا توقف سير التجاوزات، وتذكير بتصريح لرئيس مجلس النواب بان المجلس سيتعامل مع تقرير الرقابة بكل مسؤولية..
 
طموحنا -او هذا الطموح- ان يكون هذا هو الأمل الذي له سند على ارض الواقع بعيدا عن البيانات والتصريحات التي توزع على الصحف… تابعوا ودققوا واحكموا..!!.. فلنتهيأ ونستعد ونبدأ العد والأيام بيننا.
 
الأيام 5 يناير 2012