المنشور

٢٠١٢: وضوح رسالة الثورات العربية – شفيق ناظم الغبــرا


مع إحراق محمد بوعزيزي جسده احتجاجاً في كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٠ أطلق وميضه طاقات محبوسة ومطالب مؤجلة وحقوقاً مهضومة وتطلعات متجددة لجيل جديد. لقد تحولت الثورات إلى رسالة جيل وصحوة للفئات المهمشة والمستثناة في البلدان العربية. ورغم تسلح الثورة الليبية اضطراراً استمر الطابع المدني عنصراً أساسياً في الثورات الشبابية. لقد انتقلت الثورة بسرعة من تونس إلى مصر ومنهما إلى ليبيا واليمن ثم إلى سورية، كما أنها حركت بدرجات متفاوتة انتفاضة مؤثرة في البحرين وأثارت حراكاً عميقاً في كل من الأردن والمغرب وعمان والكويت.
 
لقد نتج من الثورات العربية أكثر من مجرد إسقاط قادة ثلاثة أنظمة والمحيطين بهم، بل سقطت أيضاً مع الأنظمة طرق في التفكير ووسائل توريث وعناصر للديكتاتورية سادت مجتمعات عربية شتى. لقد اختصرت الثورات العربية عقوداً تميزت باختفاء الحياة السياسية في البلاد العربية وضمور المساءلة والمشاركة. في عام ٢٠١١ زرعت بذرة جديدة في الأفق العربي أساسها المشاركة في الميادين العامة وأولوية الحرية والتغيير في كل مكان. إن الثورات والانتفاضات عممت الوعي بين المواطنين ودفعت الناس نحو المشاركة والاحتجاج والانتخاب وتعلم أبجديات السياسة بعد أن حرموا منها لعقود. لقد دخلنا مرحلة طويلة ستتجاوز هذا العقد هدفها بناء دول ديمقراطية تعددية وتنموية.
 
ومع الثورات العربية أصبحت قضايا الفساد وانتخاب رئيس الوزراء والتداول على السلطة والحريات، والتنمية الاقتصادية والمساواة والعدالة، قضايا رأي عام تهم كل مواطن. في العقل العربي الجديد تمرد وعصيان. فالشعوب تريد حكومات منها واليها. لهذا نجد أن العرب انتقلوا في مدة زمنية قصيرة من مكان إلى آخر وذلك بمجرد قدرتهم على هز حصون الديكتاتورية والانتهاء من زمن السلبية. هذا ما يقع اليوم في دول عربية عدة بينما يتصدر المشهد كل من سورية واليمن وثورتيهما.
 
على مشارف عام ٢٠١٢ لا يبدو أن العرب لديهم خيارات كبيرة ولا يبدو أن الخائفين من التغيير لديهم خيار رفضه والوقوف في وجهه. فالتغيير يأتي من باطن المعوقات التاريخية التي منعت نهوض العرب وعمقت تبعيتهم وضعفهم التنموي والسياسي والإنساني. الصحوة العربية الجديدة فرضت تغييراً مس كل الناس معززاً طموحاتهم وثقتهم بأنفسهم. لهذا بالتحديد فمن ينجح من الأنظمة العربية التي لم تقع فيها الثورات في الانتقال الديمقراطي سوف ينجح في تحقيق أهداف الثورات من دون الحاجة إلى ثورة. وبالمقابل إن من يفشل من الأنظمة في تحقيق المطالب التي تطرحها المرحلة التي حملتها إلينا الثورات فإنه يعرض نفسه لهزات كبرى. وحتى الأنظمة التي وقعت فيها الثورات فهي مهددة بالارتداد عن مطالب الثورة، ولهذا هي مهددة بعودة المتاريس والاحتجاجات والثورة إلى الميادين كما يقع في مصر هذه الأيام بين الشباب والجيش. لقد كبر الشعب على أنظمته وعلى جيوشه تجاوزها.
 
في ظل الربيع العربي وثوراته لم يعد مقبولاً قيام الأجهزة الأمنية بمعاملة الناس بازدراء وبتعسف، وأصبح الناس أكثر استعداداً لدخول السجون والخروج منها بدرجة من الفخر وذلك للاحتجاج على سجن مغرد أو إيقاف مدون أو كاتب. لم يعد هناك خوف من القوة التعسفية واستخداماتها ومن الرصاص الحي والدبابات والرشاشات والقنابل. لقد سقطت حواجز الخوف والطاعة (وما زالت تسقط تدريجياً) التي صرفت الأنظمة على تشييدها الكثير من ثروات المواطنين وقوت عملهم وعرق جبينهم.
 
ومع دخولنا عام ٢٠١٢ فقدت السلطة السياسية في البلاد العربية الكثير من هيبتها ومن شرعيتها السياسية، ويتضح أنها في طريقها لفقدان المزيد من الشرعية حتى لو لم تقع ثورة في مواجهتها في كل دولة، فالشرعية أمر محسوس في الشارع وفي المؤسسات في المجتمع. إن تراجع الشرعية العربية في عام ٢٠١٢ سيعني ضعف قدرة السلطات على استعادة توازنها في المجتمعات العربية التي لم تقع فيها الثورات. لهذا فتوازن هذه الدول أصبح مرتبطاً بمدى مقدرتها على إدارة تغيير جوهري في العلاقة مع المواطن والشباب من الجيل الصاعد. هذا سيتطلب السير نحو تحول ديمقراطي حقيقي والعودة إلى مشروع بناء الدولة الحديثة وجوهره حقوق ثابتة للمواطن في تقرير شؤون السياسة في وطنه.
 
ونكتشف أيضاً أنه في الدول التي وقعت فيها الثورات مثل مصر لم تنتصر الثورة بالكامل، لهذا تتواجه مع حقائق صعبة في المرحلة الانتقالية تتعلق بدور الجيش والمجلس العسكري في السياسة والاقتصاد، ونكتشف أن روح القمع وتحديد الحريات والحد منها ومواجهة وسائل الإعلام وحبس الصحافيين والتعسف وقتل المتظاهرين ما زالت مستمرة في الدول التي وقعت فيها الثورات كما هو حاصل في مصر اليوم. وهذا يدفع مصر بالتحديد إلى الاستمرار في الثورة وربما السير نحو جولة ثانية من الثورة. إن استمرار سعي الجيوش للسيطرة على الحياة السياسية سيبقي الاقتصاد الوطني محدوداً وسيحد من النمو وسيبقي الفساد منتشراً وسيؤدي بطبيعة الحال إلى فشل كبير في حل المشكلات التي سببت الثورة على الديكتاتورية.
 
ومن الواضح أن عام ٢٠١٢ سيكون عام الإسلام السياسي وتمكنه في الدول العربية. الإسلام السياسي يقود المرحلة، ويتحول إلى ممرنا الأهم كعرب للدخول إلى العالم الديمقراطي. لقد تحول الجامع بمكوناته النفسية والدينية والسياسية إلى مكان جامع، وذلك بعد أن حرمنا من السياسة على مدى عقود عدة. وعلى رغم كل المشكلات التي تكتنزها بعض أفكار الإسلام السياسي إلا أن الشق السياسي لهذا الإسلام فيه الكثير من القوة والقدرة على التغيير. في الإسلام السياسي أجيال مختلفة التوجهات والتجارب والرؤى، بل من المرجح أن التيارات الإسلامية ستتواجه هي الأخرى مع تغيرات كبرى وأجيال صاعدة في تنظيمها ممن يفهمون العالم المحيط بهم من زوايا أكثر تفهماً للآخر.
 
٢٠١٢ سيفرض على الإسلام السياسي تحديات رئيسية كالتعامل مع البنوك والاقتصاد والتنمية والمرأة والسياحة والترفيه وكل ما يصطدم بالحريات. سيضطر الإسلام السياسي، سواء كان في السلطة أو متحالفاً معها، إلى تحديد موقف من القمع ومن استمرار الثورة في بعض الحالات ومن انتهاكات حقوق الإنسان في حالات أخرى. قد يجد الإسلام السياسي أنه يخسر قواعده في مناطق بينما يكسب قواعد أخرى في مناطق أخرى. في هذا الحراك الجديد قد يخسر الإسلام السياسي الكثير من قوته إذا فشل في التعامل مع الحريات والتنمية والحقوق والديمقراطية والجيل الثوري بمرونة وانفتاح، كما قد يكسب مزيداً من النفوذ والقوة إذا نجح في التأقلم مع مجتمعات حرة وبلاد متحولة وانفتاح حتمي.
 
سيكون العام القادم عام القضية الفلسطينية التي تزداد احتقاناً وألماً بينما تتجه إسرائيل نحو المزيد من العنصرية والاستعلاء والاستيطان. القضية الفلسطينية تستعد لاستعادة وهجها بعد أن وصلت إلى طريق مسدود عبر الطرق الدبلوماسية. مع قيام الولايات المتحدة بإغلاق طريق الدولة الفلسطينية في الأمم المتحدة ستفتح طرق أخرى تشبه الثورات وميادين التحرير التي عرفناها طوال عام ٢٠١١. هذه المرة سيأتي الاحتجاج من فئة أخرى من فئات الشعب الفلسطيني ممن يعانون من العنصرية الصهيونية في أبشع تعبيراتها. هذه المرة قد تكون ثورة فلسطينيي ١٩٤٨ أساس الشعلة الجديدة التي تستقطب بقية المجتمعات الفلسطينية، ففلسطينيو ١٩٤٨ هم أكثر المرشحين لنسف المعادلات وبث التجديد في مواجهة العنصرية والمشروع الصهيوني الراهن.
 
عام ٢٠١٢ سيكون عام استمرار ثورات العرب. سيكون عام انتصار اليمن وسورية على الديكتاتورية وعام الوضوح في رسالة الثورة المصرية والتونسية والليبية، وهو أيضاً عام حراك وانتقال في كل بقاع العالم العربي. لقد دخل العرب في مرحلة جديدة بفضل الثورات، لكن الحصاد الحقيقي سيتطلب مزيداً من التضحية والوقت من قبل جيل قرر أن يقطع علاقته مع ماض مملوء بالديكتاتورية والهزائم والفساد.
 

موقع منبر الحرية
الكاتب: شفيق ناظم الغبـرا
أستاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت