المنشور

تركيا في قلب الإعصار العربي


كيف نقرأ تحول تركيا اللافت من عرّاب مشروع النهضة الشرق أوسطية، العربية تخصيصاً واستهدافاً، والدفاع الجسور والمتألق عن قضية وحقوق الشعب الفلسطيني في المحافل الدولية، وقبل ذلك في مواجهة “إسرائيل” عبر خوض جولات صراعية ساخنة معها (انسحاب رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان من اللقاء الذي جمعه مع الرئيس “الإسرائيلي” شيمون بيريز على هامش أعمال مؤتمر دافوس الذي يجمع سنوياً نخب الأعمال والسياسة في العالم، وتسيير تركيا سفينة مرمرة ضمن أسطول الحرية لكسر حصار غزة، والذهاب لحد المجابهة مع الكوماندوس “الإسرائيلي” في عرض البحر)، إلى عرّاب “عملية” التغيير السياسي الهيكلي الشامل في العالم العربي؟
 
هل هي الظروف الموضوعية المتمثلة في “الربيع العربي” التي فرضت نفسها على القيادة التركية لتغيير دفة سياستها من التقارب والتآلف، وحتى التحالف، مع أنظمة الأمر الواقع العربية، إلى الانخراط الكامل والفاعل في المجهود الغربي- الأمريكي والأوروبي الغربي، الرامية إلى تغيير هذه الأنظمة إما كلياً وإما جزئياً، حسبما تمليه المصلحة الحالّة والاستراتيجية؟ أم أن دوراً كان قد توصل إليه الاستراتيجيون الغربيون وتوافقوا عليه مع تركيا من قبل حدوث متواليات ذلكم “الربيع العربي” في عموم الساحات العربية؟
 
سؤال سوف يظل حائراً وسط جدل ظهر تواً وراح يتخذ له هامشاً معتبراً في مداولات الإعلام العربي، إلى أن يُقيض  للحقيقة، سواء بدواعي زخم الأحداث وتداعياتها القاهرة، أو بمحض المصادفة التاريخية، أن تُجلي ما هو خافٍ، حتى الآن، على المتابع النبيه الحصيف .
 
غنيّ  عن القول أن البنيان المؤسسي للنظام السياسي التركي هو في الواقع أكثر تقدماً بكثير من متوسط نظرائه من الأنظمة السياسية السائدة في بلدان “العالم الثالث”، فلابد، والحال هذه، أن تكون الرؤية المستقبلية والاستراتيجية حاضرة بقوة في ممارسته السياسية الدولية، الأمر الذي يعني أرجحية “انفتاح” الطبقة السياسية التركية، بغض النظر عن الطيف السياسي الذي تنتمي إليه، وعلى الخيارات البراغماتية كافة، التي يمكن أن تسهم في خدمة هدف يعزز مواقع وإمكانات تركيا على الصعيدين الإقليمي والدولي .
 
وقد يشط بنا الخيال في محاولتنا رصد وقراءة التحولات والتبدلات المفاجئة المصاحبة للحدث العربي الكبير، وبضمنها المتغير الأبرز في المعادلة الشرق أوسطية الجديدة، وهو المتغير التركي – بمعطى فكري استشرافي وليس بهوس التفسير التآمري للتاريخ الجاري والمستقبلي – فنذهب بذلك في فرضيتنا إلى القول إن الولايات المتحدة التي تعتمد كثيراً على ما يسمى خزانات أو مستودعات الأفكار (Think Tanks) التي يبلغ عددها زهاء 1000 مركز  نصفها تابع للجامعات، ونصفها الآخر يعمل كمؤسسات خاصة مستقلة، 25% من هذه المراكز المستقلة موجود  في العاصمة واشنطن وأبرزها “بروكينز انستيتيوشن” ،1927 و”أمريكان إنتربرايز انستيتيوت” ،1943 ومركز الدراسات الاستراتيجية والدولية ،1962 وهو تابع لجامعة جورج تاون، وهيريتيج فاونديشن ،1972 و”راند كوربوريشن”، نقول إن الولايات المتحدة التي تعتمد كثيراً على هذه المراكز البحثية الاستراتيجية، قد درست الخريطة الاجتماعية للمجتمعات العربية المثقلة بخزين وافر من المواريث الدينية والعصبيات “العضوية” المختلفة، بهدف تحويلها ووضعها على مسار النهضة العالمي، قد اهتدت وتوصلت إلى خلاصة مفادها أن الجماعات الإسلامية التي تنتظم الشرائح الأوسع من الطبقات الفقيرة والمتوسطة، هي القوى الاجتماعية الأكثر نفوذاً وتأثيراً في مسارات وأنماط واتجاهات الحياة العربية، وأن جماعة الإخوان المسلمين هي الجماعة الأكثر تنظيماً وتأثيراً من بينها، كما أنها الأقل تطرفاً وغلواً وأكثرها استعداداً للتعاطي مع الآخر والقبول به، ولو إكراهاً تكتيكياً .
 
وفي التنفيذ، كان يتعين على الولايات المتحدة التي أقامت الدنيا ولم تقعدها، هي وحليفاتها الغربيات عندما فاز حزب الإخوان المسلمين (جبهة الإنقاذ الوطني) في الانتخابات التشريعية التي جرت في الجزائر في عام ،1991 ما حفز المؤسسة العسكرية التي تهيمن على كل مناحي الحياة الجزائرية، إلى رفض نتائج الانتخابات وخوض حرب أهلية راح ضحيتها مئات الآلاف من القتلى والجرحى، والتي (أي الولايات المتحدة) اتخذت موقفاً عدائياً مماثلاً من فوز حركة المقاومة الفلسطينية “حماس”، (النسخة الفلسطينية من الإخوان المسلمين)، في الانتخابات التشريعية الفلسطينية في عام 2006 جسدته في الحصار الإجرامي المفروض على قطاع غزة منذ ذلك الحين، كان يتعين عليها أن تغير موقفها وتفتح قنوات اتصال وتتفاوض مع الإخوان المسلمين، وهو ما فتح الباب واسعاً أمامهم للوصول بسهولة إلى السلطة في تونس (حزب النهضة)، وتقريباً في ليبيا، وفي مصر (حزب الحرية والعدالة الذراع السياسية لجماعة الإخوان المسلمين الذي شكلته الجماعة بعد الثورة، وحزب النور السلفي اللذان فازا بنحو 65% من أصوات الناخبين في الجولة الأولى من الانتخابات التشريعية المصرية)، وفي المغرب (حزب العدالة والتنمية الذي فاز في الانتخابات المغربية بعد التعديلات الدستورية الاستباقية بأغلبية مقاعد البرلمان: 107 مقاعد من إجمالي مقاعد البرلمان المغربي البالغة 395 مقعداً)، والمتوقع في سوريا إذا ما سارت الأمور حسبما هو مخطط لها .
 
حتى إذا ما صحّت هذه الفرضية، فإن ترتيباتها تفترض الاستعانة بتطبيقات النموذج التركي لطريقة إدارة الإخوان المسلمين الأتراك (حزب العدالة والتنمية) دفة الحكم في تركيا، وهو حزب كان قد تشكّل، كما نعلم، على أيدي مجموعة من النواب الذين انشقوا عن حزب الفضيلة الإسلامي الذي كان يترأسه نجم الدين أربكان، والذي تم حله بقرار صادر من المحكمة الدستورية التركية في 11 يونيو ،2001 حيث تخلّى الحزب الجديد بزعامة رجب طيب أردوغان عن راديكالية أربكان الإخوانية، وتبنّى نهجاً تصالحياً مع العلمانية التركية التي يعد كمال أتاتورك مؤسس تركيا الحديثة، الأب الروحي لها .
 
وهذا ما تم التوافق عليه، على ما يبدو، مع زعامة حزب العدالة والتنمية التركي بزعامة أردوغان، وذلك برسم الدور المحوري الذي تلعبه تركيا في إذكاء وتحفيز و”إدارة” حراك “الربيع العربي”، (في ليبيا دور نشط وفعال في الجهد الأطلسي لإطاحة القذافي، وفي الجامعة العربية حضرت بصفة مراقب حين وجهت الجامعة إنذار ال 24 ساعة الشهير إلى سوريا بالعقوبات الاقتصادية إذا لم تستجب لشروط الإنذار العربي . . على سبيل المثال لا الحصر) .
 
تبقى مسألتان أساسيتان بالنسبة إلى الأمريكيين الذين لا بد أن يكونوا قد طرحوهما خلال حواراتهم مع الإخوان كشرطين يتعين استيفاؤهما لتبديد قلق واشنطن وحلفائها بشأن مصيرهما، وهما العلاقة المستقبلية مع “إسرائيل”، وعدم المساس بالقاعدة الأساسية للمقاربة الديمقراطية التي ستوصل الإخوان إلى السلطة وهي التداول السلمي المنتظم- غير المنقطع- للسلطة، واحترام التعددية السياسية والدينية والثقافية .
 
قد تكون هذه الصفقة- إذا ما صحت فرضيتها- صفقة القرن بالنسبة إلى العالم العربي، من حيث إنها ستدشّن عصراً جديداً في تاريخ التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي للمجتمعات العربية، بما لها من إيجابيات وما عليها من سلبيات .