المنشور

“الهويات القاتلة”


هذا كتاب نعود إليه مراراً ولا نمل. ليس فقط لأنه كتاب مضيء، وإنما لأنه كتاب نحتاجه، لأنه يعنينا، بل أنه عنا، وهو يعنينا اليوم في البحرين أكثر مما كان يعنينا قبل أمد ليس بعيداً.

انه كتاب”الهويات القاتلة” لأمين معلوف، الذي اشتغل في عمله الروائي على تتبع مسار تشكل الهويات وعلى تجاورها حينا، وعلى تنافرها حيناً آخر. لكنه في هذا الكتاب لا يكتب رواية، كما أنه لا يكتب بحثاً أيضاً، وإنما يكتب تأملات عميقة، تتقاطع فيها التجربة الشخصية للكاتب مع حصيلته المعرفية العميقة، ومن خلالهما يُشخص كيف يمكن للهوية الثقافية والدينية للأفراد والجماعات، التي تبدو مسألة طبيعية ومشروعة، حيث ليس بوسع أي منا أن يرى نفسه خارج هوية معينة، أو على تخوم هويات متعددة، أن تتحول، أي هذه الهوية، إلى هوية مُدمرة، أو قاتلة على نحو ما يذهب إليه عنوان الكاتب.
 
يتكثف جوهر المشكلة في تلك اللحظة التي  ينقسم فيها المجتمع إلى “نحن” و”هم”، حين يصبح قسم من المجتمع يعرف نفسه أمام أفراده ب”نحن” ويومئ إلى القسم الآخر ب”هم”، والعكس صحيح بطبيعة الحال، وكما يذهب معلوف فان جماعة “نحن” في هذه الحال يقدمون أنفسهم في مظهر الضحايا والأبرياء، أما “هم” فإنهم مذنبون، حتى لو كشفت المعاينة التاريخية أو الراهنة أن كلا الفريقين على خطأ، أو أنهما يتقاسمان هذا الخطأ إما بالتساوي أو بنسبة تزيد هنا وتنقص هناك تبعاً لواقع الحال الملموس.
 
لا صراع بين الهويات الثقافية أو الدينية أو ما هو في حكمهما يُمكن أن يُفهم بمعزل عن جذره الاجتماعي الكامن أساساً في صراع المصالح، ودائماً فان من مصلحة أصحاب هذه المصالح تأجيج المشاعر الطائفية لصرف الأنظار عما ندعوه التناقض الرئيسي في المجتمع، وهو أمر رغم وضوحه يبدو شديد التعقيد حين يُراد شرحه للجماهير، فالجماهير لا يمكن إقناعها عادة، وإنما يكفي تعبئتها وإطلاق ما في دواخلها من مكبوت قد يمتد عميقاً وبعيداً. الجماهير أميل إلى أن تتلقى الرسالة التعبوية السهلة، بينما لا تبدي الحماسة ذاتها لفهم الظواهر المعقدة عبر أدوات التحليل.
 
ولكن هذا الجذر الاجتماعي لصراع الهويات أو تنافرها، لا ينفي أن هذا الصراع، أو التنافر، يصبح مع الوقت ظاهرة على قدر كبير من الاستقلالية بحاجة إلى الوقوف المتأني أمامها، لأن هذا التنافر يمكن أن يمر بحالات مختلفة، يخبو حيناً حتى لا نكاد أن نراه ظاهراً ونحسب أننا قد تجاوزناه، وأنه أصبح في ذمة الماضي، حتى نفاجئ، في حينٍ آخر، بأواره وقد استعر من جديد، حين يأتي باعث أو محرض عليه.
 
استوقفتني عبارات بليغة وردت في رواية “الإمبراطور الصغير” لكاتبنا المعروف محمد عبد الملك تتحدث عن الظاهرة الطائفية أنقلها هنا حرفياً، لأنها تكاد توجز تحليلاً مُطولاً عن الموضوع: “من أين جاءت الطائفية؟ في الأغلب دفنوها لكنها لم تمت. كان الأهالي ينتصرون عليها دائما، لكنها مثل بعض أنواع البكتيريا تعود للتكاثر بسرعة. هي أخطر أنواع البكتيريا الضارة لأنها تتولد داخل الجسم دون أن نراها”.