المنشور

جمال مرهون

 


ليس بالوسع أن تغادر صورته المخيلة، آخذاً مكانه في أريكته الأثيرة في صالة بيته، التي لا يتنازل عنها لأحد، كما كان يُردد دوماً، محاطاً بزملائه وأحبته الكُثر، مطلقاً بين الحين والآخر واحدة من دعاباته الساخرة التي لا تنتهي، فقد كانت تلك الدعابات التي تنم عن روحً جميلة شفافة لازمة من لازمات حديثه.
 
لا أستطيع تَخَيُل هذه الأريكة بالذات، في الموقع الذي تقع فيه بالذات، وقد غاب عنها صاحبها، الذي جعل منها مكانه الصديق الذي لم يعد يقوى على مفارقته، إلا على الكراهة، إذا ما استعرنا هذه المفردة من المعجم الشعري للجواهري الكبير.
 
 في الذهن الآن صورة ذلك الشاب الذي يضج بالحيوية والإقبال على الحياة في زمنٍ مضى. كان زمناً اخضر، ذاك الذي كان فيه وجه الفتى جمال يشع بين رفاقه، من الشباب والصبايا، في حلمهم الجميل الذي وجد في مدينة بونا الهندية فضاءً له، يوم كانوا يتلقون العلم في جامعاتها ومعاهدها.
 
إلى هناك ذهبتُ أكثر من مرة يوم كانت راية اتحاد الشباب الديمقراطي البحراني تظللنا في المنافي أو تحت قبضة القمع في الوطن،  كانت أعمارنا غيرها هي الآن، ولم تكن الدنيا تتسع لأحلامنا الكبيرة، مُفعمين بالثقة التي لا تحدها حدود في قرب تحققها. وكان من المستحيل أن يخطىْ بصر العين وبصيرة الروح، وسط ذلك الحشد من الشبان والفتيات وجه جمال، وجمال روحه.
 
في الذهن أيضاً صورته وهو يخطو خطاه بقامته الطويلة الرشيقة في اتجاه مكتبة المنبر التقدمي في الغرفة الخارجية من مبنى المنبر القديم في الزنج، وفي الذهن، كذلك، صورته في مسيرات الأول من مايو كل عام تجوب شوارع العاصمة بين رفاقه وزملائه من أعضاء المنبر التقدمي ومن الشبيبة، يوم كانت روحه لا تزال متقدة بالأمل، وكان من الصعب التصديق أن جمال الذي أنهكه المرض في أيامه الأخيرة، على سريره في المستشفى، هو نفس ذلك الشاب الحيوي الذي كانهُ قبل حين قريب.
 
جامع النقائض هو: رقيق وجميل وشفاف ومشاغب ومشاكس وعنيد، حتى في إصراره على الرحيل عنا وعن الحياة كان عنيداً، للدرجة التي تجعلنا نحار كيف لجمال المحب للحياة، والمُقبل عليها بجنون، أن يختار الذهاب في إصرار عنيد إلى الموت. كيف أمكن له ذلك، في الوقت الذي كان متاحاً أن يتمسك بتلابيب الحياة، الجديرة بأن تُعاش ما استطعنا إليها سبيلا.
 
وهبْ أننا غفرنا له ما خلفه في نفوسنا من حسرة، كيف لنا أن نغفر لأنفسنا خطيئتنا، نحن رفاقه ومحبوه، أننا لم نبذل من الجهد ما كان ضرورياً لثنيه عن هذا العناد، ولأن نظهر ما يكفي من الحرص على أن نُبقيه بيننا في الحياة التي تزداد وحشة، كلما غادرنا وجه عزيز مثل وجه جمال، وحلقت في السماء روح شقيقة كانت لنا مصدر بهجة مثل روحه.