المنشور

أمم متحدة في ثوب عصبة الأمم

ليس بالأمر الجديد أو الغريب أن تستخدم القوى العظمى في العالم، ونخص منها بالذكر الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي، منظمة الامم المتحدة، لتمرير سياساتها وتنفيذ أجنداتها وأهدافها. فلقد كان هذا هو حال الامم المتحدة منذ تأسيسها على أيدي القوى الكبرى المنتصرة في الحرب العالمية الثانية سنة 1945 (الولايات المتحدة وروسيا وبريطانيا تحديدا)، حيث اختصت نفسها في المنظمة الأم العالمية، الجديدة آنذاك، بميزات حصرية أهمها وأبرزها تمتعها حصرا من بين سائر الدول الأعضاء في المنظمة بالعضوية الدائمة في مجلس الامن الدولي الذي يعتبر أعلى سلطة سياسية وتنفيذية وتشريعية في العالم، وحقها، الحصري أيضا، في استخدام حق النقض “الفيتو” ضد أي قرار لا يروق لها.

ولكن ما نشهده هذه الايام من استخدام مفرط وفاضح للامم المتحدة، خصوصا سلطتها الأعلى مجلس الامن الدولي وبعض المؤسسات المفتاحية التابعة للمنظمة مثل الوكالة الدولية للطاقة الذرية والاخرى الناظمة لحركة النظام الدولي، وخاصة المحكمة الجنائية الدولية، فضلا عن التقارير الموجهة سياسيا (المسيسة) التي يرفعها، عند الطلب، أمين عام الامم المتحدة بان كي مون إلى مجلس الأمن، ومعنونة تحديدا الى مندوبي الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا في المجلس، وذلك لتحقيق غايات الضغط والابتزاز السياسي – ما نشهده غير مسبوق.

لقد أصبح اللعب على المكشوف، فالوضع الدولي المختل هو في غير صالح القوى الكبرى التقليدية الممسكة بناصية القرار والحراك الدولي، خصوصا على الصعيدين الاقتصادي والمالي، وهاجس اقتراب ما يعرف في تاريخ الامم والشعوب بعصر الاضمحلال، قد اضطر على ما يبدو هذه القوى وتحديدا الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، لاستخدام نفوذها على الكوري الجنوبي بان كي مون أمين عام الامم المتحدة والياباني يوكيا أمانو مدير عام الوكالة الدولية للطاقة الذرية والأرجنتيني لويس مورينو أوكامبو مدعي عام المحكمة الجنائية الدولية، لدفعهم للتخلي عن حياديتهم وتكثيف وتثقيل توظيفهم للمؤسسات الدولية التي يديرونها في خدمة أجندات سياسية للحلف الثلاثي الامريكي/البريطاني/الفرنسي الهاجم بقوة على المنطقة العربية التي تعتبر مصدر الطاقة الاحفورية الرئيسي في العالم وأحد أكثر الاقاليم الاقتصادية في العالم حيازةً للاحتياطيات النقدية.

الأمم المتحدة هي منظمة عالمية مهمتها الحفاظ على الأمن والسلم العالميين، وأمينها العام يُفترض أن يوازن بين مصالح القوى القابضة على والمسيٍّرة لمجلس الامن الدولي وبين مصالح الغالبية الساحقة من الدول الاعضاء في المنظمة التي اختصها مؤسسو المنظمة الكبار بالجمعية العامة التي لا تعدو أن تكون “هايدبارك” منزوع الصلاحيات، مخصص لتسجيل وتفريغ المواقف وحسب.

أما الوكالة الدولية للطاقة الذرية التي تأسست في عام 1957 فهي وان كانت مستقلة شكلا الا انها في المضمون تعتبر أحد أذرع الدول الثلاث الاعضاء في مجلس الامن (أمريكا، بريطانيا وفرنسا) لممارسة الابتزاز والضغط، فهي تعمل في الواقع تحت اشراف الامم المتحدة منذ قيامها كمنظمة مقرها فيينا تُعنى بتشجيع الاستخدامات السلمية للطاقة النووية والحد من التسلح النووي.

وأما المحكمة الجنائية الدولية التي أُنشئت حديثا نسبيا (في عام 2002) كأول محكمة معنية بمحاكمة الافراد المتهمين بجرائم الابادة الجماعية والجرائم ضد الانسانية وجرائم الحرب وجرائم الاعتداء، فانها وان كانت، كما ورد في ميثاقها، هيئة مستقلة عن الامم المتحدة، الا ان استقلالها يقتصر فقط على التمويل والتوظيف، ذلك ان اتفاقا أُبرم بين المحكمة والامم المتحدة يحكم طريقة تعاطيهما مع بعضهما تتيح لثلاثي مجلس الامن النفاذ الى توجهات المحكمة واختياراتها، الانتقائية، في قبول الدعاوى وتحريكها زمنيا حسبما تقتضيه توجهات سياساتها الخارجية الجارية والاستراتيحية.

بهذا المعنى يمكن القول ان هنالك افراط واضح ومكثف في توظيف استغلال المؤسسات الدولية الحاكمة من جانب القوى الغربية الكبرى، وتخصيصا الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، والذي يعيد الى الاذهان ذلكم السقوط المريع لعصبة الامم (المنظمة الدولية ما قبل انشاء الامم المتحدة) في قبضة القوى الاستعمارية الغربية التقليدية التي حولتها الى اداة لشن الحروب وتبريرها. جدير بالذكر ان عصبة الأمم (League of Nations) التي اتخذت من جنيف مقرا لها كانت قد تأسست عقب مؤتمر باريس للسلام عام 1919 الذي انهى الحرب العالمية الاولى التي دمرت انحاء كثيرة من أوروبا والعالم. وهي أول منظمة دولية هدفت للحفاظ على السلام العالمي، وكان أقصى عدد من الدول الاعضاء قد وصلت اليه هو 58 دولة لم تكن الولايات المتحدة الامريكية من بينها حيث رفضت الانضمام اليها. واعتمدت على القوة العسكرية للدول العظمى لفرض قراراتها والعقوبات الاقصادية على الدول التي تستهدفها. وظهر عجز وانهيار العصبة بعد ان بدأت دول المحور (وهي الدول التي شكلت تحالفا عسكريا في الحرب العالمية الثانية وهي المانيا النازية بقيادة ادولف هتلر وايطاليا الفاشية بقيادة بينيتو موسوليني ثم انضمت الى التحالف اليابان وبعد ذلك دول اخرى مثل النمسا ورومانيا وبلغاريا والمجر) تستهزىء بقراراتها. في عام 1943 وافقت قوات الحلفاء (الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي وبريطانيا) عشية انتهاء الحرب العالمية الثانية في مؤتمر طهران على انشاء هيئة جديدة لتحل محل عصبة الامم هي الامم المتحدة.

فهل يعيد التاريخ نفسه من جديد ويتعمق الانقسام الحاصل حاليا داخل مؤسسات النظام الدولي ما بعد الحرب العالمية الثانية بين الصين وروسيا من جهة والولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا من جهة ثانية، ليتوزع العالم بعد ذلك بين “المعسكرين” المتضادين، فتضيق بهما وبخلافاتهما المنظمة (الامم المتحدة) التي طالما استظلا بها على مدار أكثر من 60 عاما؟

هو نظام قديم على أية حال، وقد استنفد كل أغراضه، فالحياة الدولية اليوم تختلف جذريا من النواحي السياسية والاقتصادية والتكنولوجية والايديولوجية والثقافية عما كانت عليه عشية انتهاء الحرب العالمية الثانية، ولعل أكبر تناقضاته استمرار تمتع 5 دول من بين كافة الدول الاعضاء في منظمة الامم المتحدة البالع عددها 192 دولة بالحق الحصري لنقض قرارات مجلس الامن.