المنشور

التشاؤم الذي يقترب من جَلْدِ الذات


في أول زيارة لي إلى مصر المحروسة  وكانت زيارة عمل  بعد قيام ثورة 25 يناير، وإن كانت زيارة خاطفة، إلا أنها كانت كافية لطمأنتي عن البلد الذي يعدّ بمنزلة عاصمة العرب ومرجعهم في النهضة والحداثة، وعمقهم البشري وطاقاتهم المثبتة والكامنة، والرقم الصعب في المعادلة التقدمية العربية . لم ألمس ما يدل على أن شيئاً قد انكسر في مصر، لا على الصعيد المادي العمراني  باستثناء مبنى المقر الرئيس للحزب الوطني الذي لم يُعرف إلى اليوم المسؤول عن إحراقه  ولا على الصعيد الإنساني المعنوي والنفسي، حيث مازالت الشخصية المصرية محتفظة بسجاياها الفطرية الأميل إلى الهدوء والمرح والتفاؤل .
 
لم لا وقد قام أبناء النيل بثورة فريدة من نوعها في التاريخ الحديث، ثورة حازت إعجاب وتعاطف الدول والشعوب قاطبة في مشهد نادر الحدوث تجلّى في الموجات البشرية المليونية المتتابعة والهادرة إصراراً على إحداث التغيير في البلاد وإعادتها إلى سكة التطور المستقل بعد أن أنهكها حكم الثلاثة عقود الاستبدادي، وأفسد معها مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية كافة .
 
ولكن هل هذا كل شيء؟ كلا بطبيعة الحال، فما إن بدأت ثورة شعبية عارمة غطت مدن وبلدات وقرى ونجوع مصر من أقصاها إلى أقصاها، ونجحت في إسقاط (النظام)، سرعان ما تحولت في غمضة عين إلى محاولة اختطاف بارعة في رابعة النهار أيضاً .
 
فمصر، كما نعلم، هي “الكريمة” التي انقضّت عليها أيدي الطامعين المتربصين لحظة جاهزيتها، والتي سوف تظل تتنازعها قوى عديدة متحيّنة، في الداخل كما في الخارج، من أجل إعاقة عملية حصاد الشعب المصري وقواه الحية لما حققته بالتضحيات الجسيمة، من نقلة نوعية في بنية السلطة والنظام .
 
وهذا ما حدث على أرض الواقع، فالثورة نجحت في إجبار النظام المتسربل والمتمكن في أجهزة الدولة ومؤسساتها كافة، على سحب رأس النظام وحسب، من “التداول”، بينما بقي القسم الأعظم من جسم النظام “سليماً” لم تطله الإصلاحات التي قامت من أجلها الثورة، باستثناء بعض التغييرات التي يقوم المجلس العسكري، بوصفه وصياً على الثورة إلى حين انتهاء المرحلة الانتقالية، بإحداثها بأسلوب التنقيط من أعلى كلما عادت موجات الغضب إلى ميدان التحرير .
 
وهنا بالتحديد يقع مكمن الخطر الذي دفع الكاتب المصري المعروف مأمون فندي إلى مهاجمة مواطن التخلف في مصر والمجتمع المصري على طريقة جَلْدِ الذات بمحرك الحمية والغيرة على أبناء وطنه بطبيعة الحال، ودفع أيضاً  ويا للمصادفة  الكاتب والمفكر الكبير سيد القمني إلى الكتابة الهجائية بذات الاتجاه في السادس عشر من أكتوبر/تشرين الأول 2011 .
 
فهل من مبرر حقاً لهذا الخوف وهذه القراءات المتشائمة للمشهد المصري ما بعد الثورة؟
 
نعم، هناك أكثر من مبرر لهذه المخاوف وهذه النظرات السوداوية، وذلك عطفاً على حالة الانقسام السريع والغريب الذي حدث بين مكونات المجتمع الأساسية، مسلمين ومسيحيين (أقباط)، خصوصاً، وبين القوى والأحزاب السياسية التي بقيت متوحدة في ميدان التحرير حتى لحظة سقوط رأس النظام . وما إن سقط رأس النظام ومعه بعض رموزه الكبيرة، حتى “انفض مولدها”، كل يلوذ “بصومعته”، ومن لا يملك “دكاناً حزبياً”، اندفع بكل همة وحماسة لإنشاء “دكانته” الحزبية حتى وصل عدد الأحزاب إلى 56 حزباً .
 
وما زاد الطين بلة هو أنه ما إن شعر المنتفضون بانتهاء مهمتهم المتمثلة في الخلاص الجماعي من الحالة الشمولية التي يرمز إليها رأس النظام، حتى تحولوا إلى الخلاص الفردي، حيث عمّت الإضرابات المهنية مختلف مواقع قطاعات الإنتاج، كل أعضاء نقابة مهنية يطالبون بحقوقهم التي لم يمكّنهم منها النظام السابق، ولم يكن ليسمح لهم بالتعبير عن الغبن الاجتماعي الواقع عليهم .
 
وحيث إن البلاد لم تكن تنقصها الفوضى، وقد تركها النظام السابق في حالة من الفساد المهول والمستشري، والفوضى التنموية التي تشبه الحالة التي آلت إليها روسيا، إبان حكم الرئيس الراحل بوريس يلتسن قبل أن يجيء فلاديمير بوتين ويعيد إليها، بأسلوب إدارته الشمولي الصارم، بعض عافيتها، فإن حالة التشظي التي جنح إليها المجتمع المصري بكل قواه السياسية والاجتماعية، المدنية والدينية، قد عقّدت الموقف وزادت من صعوبة عبور المرحلة الانتقالية إلى بر الأمان .
 
في هذا الخضم ظهرت على السطح وبانت الفروق واضحة بين قوى الدولة المدنية وقوى الدولة الدينية، حيث بدت القوى الدينية أكثر تنظيماً وائتلافاً على عكس القوى المدنية التي بدت مفككة وضعيفة التنظيم، وأقل استعداداً لمقابلة الاستحقاقات المقبلة (الانتخابات البرلمانية  والرئاسية وصياغة الدستور) .
 
ونحسب أن هذا هو ما يفسر الانتقالة اليائسة والحادة من جانب بعض أفراد الطيف النخبوي المصري نحو المواقع التشاؤمية السوداوية . وهم وإن كانوا محقين في قراءاتهم وتشخيصاتهم لجوانب من مواطن العلل والخلل في مصر، فإن استغراقهم العميق في الشؤم الأسود المتولد من حصيلة تلك القراءات الأحادية الجانب، ليسوا على كامل الحق فيه، فهذه النظرة التشاؤمية تضعهم في مقام الفاعل على تضييق مساحة العيش إلى حدّ إضاعة الأمل، وهو ما لا يستقيم مع ما ذهب إليه الحكيم الثاقب في قوله “ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل” .
 
 
حرر في 4 نوفمبر 2011