التوجه بإشهار سيف المساءلة والمحاسبة ووضع ملف الفساد في دائرة الاهتمام الرسمي والإعلان الصريح عن آليات وضوابط تستهدف محاربته بعد طول إهمال، وطول انتظار نراه انجازا مهما كم كان ضروريا وملحا. الاهم من ذلك ان تكون هناك جدية كافية مقنعة تؤكد بأن محاربة الفساد لم يعد مجرد شعارات تطلق في هذه المناسبة او تلك، او مجرد توجه غير واضح المعالم، وانما فعل حقيقي وملموس وقائم على إرادة شعبية عبرت عنها مخرجات حوار التوافق الوطني، التي تحسب انها كانت القوة الدافعة لذلك ودعت الى بنية قانونية متينة، واجراءات موثوقة، وآليات فاعلة تحارب الفساد وتسد منافذه وتعزز قيم النزاهة. ما نحسبه الانجاز المهم في هذا الملف، هذا التوجه الجديد المعلن الذي عكسته العناوين التي وردت في الآونة الاخيرة في الصحف المحلية، وهي محملة بتفصيلات كثيرة لا مجال للخوض فيها، ومن دون الوقوع في فخ الاختزال والتبسيط نلفت الانتباه الى هذه العينة من العناوين:
– نظام شامل لمحاسبة كبار المسؤولين على مخالفاتهم المالية والادارية.
– تطوير ديوان الرقابة المالية والادارية وتنفيذ توصيات تقاريره.
– مكافحة الفساد عبر نظام محاسبة شامل.
– تحديد معايير تعيين ممثلي الحكومة بمجالس إدارات الشركات.
– إلزام الشركات الحكومية بتطبيق أنظمة الحوكمة.
– إنشاء جهاز لمكافحة الفساد.
– إنشاء هيئة لمكافحة الفساد التزاما باتفاقية الأمم المتحدة.
– تسهيل إجراءات القضاء على البيروقراطية.
– محاسبة الوزارات على تجاوزات الميزانية.
– تطوير النظام القضائي.
تلك عينة ليس الا.. عينة من الخطوات والتوجهات والاجراءات المرتقبة التي بات البعض يراها بأنها ضوء اخضر على طريق محاربة الفساد ومحاربة الفاسدين، ربما تشجع البعض على المراهنة على القول بان ذلك في مجمله يعكس جدية غير مسبوقة لا يشوبها الشك بعد الطارئ الجديد على الوضع والساحة والجو والمواقف وربما يذهب الى ابعد من ذلك بالظن ان الآتي اعظم.. ربما..!! الطارئ الجديد المقصود به هنا هو تلك الحصيلة من الرؤى والتوافقات التي هي ثمرة الحوار الوطني بعد ان كان موضوع الفساد وضرورة وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، ورفع مستوى عملية التعيين في الوظائف العليا بقدر عال من المهنية والمسؤولية، موضوعا حاضرا في مناقشات الحوار بمحاوره السياسية والاقتصادية والاجتماعية وحتى الشبابية، وربما بعد ان ملّ الناس من التعود على إثارة قضايا فساد وتجاوزات بما فيها تلك التي دأب ديوان الرقابة المالية والادارية على رصدها وتوثيقها، ولكن من دون حساب ومن دون تحديد للمسؤولين عن ذلك، وكأن يمكن ان تكون هناك تجاوزات من دون متجاوزين، وفساد من دون فاسدين، ورشاوى من دون راشين ومرتشين.
نعلم ان الطريق نحو معركة الفساد تكون شاقة وطويلة.. وهي معركة ليست سهلة على الاطلاق لكنها واجبة ولا يمكن تجاهلها او تجاوزها، او التعامل معها بـ”القطعة”، لان الفساد في اي مجتمع هو العدو الأول للإصلاح، كما انه خطر على التنمية والاقتصاد، وعلى منظومة العلاقات داخل المجتمع. ونعلم ان ثمة اناس لا يحبذون الحديث عن الفساد بذريعة انه يؤثر سلبا على الاستثمار وعلى جهود جذب الشركات والاستثمارات، ولهؤلاء نقول ان البيئة الاستثمارية التي تقوم على الإفصاح والشفافية وما بات يعرف الآن بالحوكمة هي بيئة صديقة للاستثمار وليست منفرة له، وانه أصبح بما لا يقبل الشك ان الاستثمار حليف قوي لنظافة اليد، وان المستثمر الذي يخشى الحديث عن محاربة الفساد يثير حوله شكوكا والتباسات. أيا يكن من أمر، فانه بعدما استرعى انتباهنا وارتياحنا تلك التوجهات، فإننا نتمنى الجدية ونرجو بأن يشكل ذلك بوادر مرحلة تلوح في الأفق تحمل رسالة لنا جميعا بأننا قد تجاوزنا رحلة إجادة الكلام فقط عن الفساد وسيادة القانون وما الى ذلك، ودخلنا معمعة الفعل المصمم على اتخاذ كل ما يلزم لمد اليد بالعلاج والتطهير لكل التقيحات والانحرافات والتجاوزات واثبات ان قيمة المساءلة الفعلية بدأت تنال حضورا فاعلا في ساحة الأداء العام والمسؤولية العامة، ولم يعد احد بمنأى عن المساءلة والمحاسبة اذا ما انحرف او اخطأ او أهمل او تجاوز او فسد وافسد.
لابد من إيجاد وتفعيل كل انواع وآليات المساءلة والمحاسبة السياسية، والشعبية، والبرلمانية والقضائية، ولدينا طموح كبير بان يعي الجميع بان سياسات مواجهة الفساد ترتبط ضمن ما ترتبط بإرادة تقنع الناس بوجهة لا رجوع عنها، وبمسارات وسلوكيات لا غبار عليها وليس فقط بقرارات وتوجيهات، وسيكون خطأ فادحا ان نترك بيئة الفساد تنمو داخل المجتمع والوزارات والهيئات والمؤسسات بالتستر، بالتبرير، بالاستثناءات، بالواسطات، بالمحسوبيات، بالمحاباة، بالتواطؤ بالكيدية، بالتمييز، بالخوف، بالسكوت على الأخطاء، بالسماح للمفسدين بان يخرجوا لنا كل يوم بلون جديد ليولدوا، وثوب جديد، وشعار جديد فسادا اكبر.. من دون ان ننسى بان ممارسة الطائفية وبث كل ما يؤدي الى الشقاق والخصام والاضطراب الشديد في العلاقات.. والمتاجرة بالدين والطائفية والمذهب هو نوع من الفساد.. وثمة من يرى ان الفساد والطائفية صنوان.. على الاقل حينما يرفع رجال الدين شعارات السياسة ترهيبا، ويرفع رجال السياسة شعارات الدين استقطابا. في النهاية لا مفر من مكافحة الفساد وإرساء مبادئ «الحكم الصالح» و”الحوكمة” والمساءلة والمحاسبة والجدارة والاستحقاق وتعزيز ثقافة المساءلة، ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب.
يبقى السؤال الأهم على الإطلاق، هل نحن مستعدون حقا لمواجهة جدية وحاسمة وصارمة ولا مهادنة فيها ولا عودة عنها وبأقصى سرعة ممكنة ومن دون تردد او تحفظ او مواقف ملتبسة ضيقة الأفق.
هذا هو بيت القصيد ومربط الفرس..؟!!
صحيفة الأيام 15 أكتوبر 2011