من استمع الى الكلمات الحماسية التي أطلقها الرئيس الفرنسي نيكولا سركوزي وديفيد كاميرون رئيس الوزراء البريطاني حول ليبيا، ومنها تلك التي حفل بها خطاباهما الحماسيان في العاصمة الليبية طرابلس، حول تحرير ليبيا وتمكينها من نيل حريتها من نظام العقيد معمر القذافي – يتراءى له انه أمام مشهد من مشاهد عصور الفتوحات والغزوات والفرمانات المشحونة بنشوات النصر والفتح المبين.
من يدري؟ فلربما تراءى لسركوزي أيضا انه نابليون بونابرت، وربما تراءى لكاميرون أيضا انه ونستون تشرتشل أو حتى مارغريت ثاتشر، ما دامت آلة الزمن (Time machine) قد فعلت فعلها وأعادتنا في إحدى لحظات اختطافها للاوعينا والإبحار بنا، في تلك اللحظة تحديدا، الى زمن أدميرالات أعالي البحار والمحيطات والغزوات البحرية المظفرة!
انما الفرق أن أمثال هؤلاء “الأشاوس” المحدثين ليس لديهم ما يفخرون به في بلدانهم من انجازات يُعتد بها، بل ان بلدانهم، فرنسا وبريطانيا في الحالة التي نحن بصددها، تجتازان مرحلة عصيبة من تاريخهما المعاصر، لم يتأخر كل منهما عن الإسهام بقسطه في زيادة طينها بلة. فما كان منهما سوى أن يوليا أدبارهما صوب الخارج تصديرا للمشكل الداخلي وبحثا عن “فرص استثمار اقتناصية” علها تقدم عونا لجهود حلحلة ذلكم المشكل المتأزم.. وهو على أية حال، الأسلوب المعتاد والمفضل لدى ساسة الأمم عبر التاريخ حين تعييهم الحيلة للخروج من مآزقهم الداخلية.
فانهم يعمدون، والحال هذه، “لحل” مشاكل بلدانهم الداخلية عن طريق الاستحواذات (Acquisitions) الخارجية على طريقة استحواذ الأسماك الكبيرة (الشركات الكبيرة) على الأسماك الصغيرة (الشركات الصغيرة) في سوق مختلة فيه شروط المنافسة.
ومادام الشيء بالشيء يذكر، فلعل من المناسب التذكير في هذا المقام ان السيدة مارغريت ثاتشر التي لُقّبت بالمرأة الحديدية حين عمدت الى استخدام العنف والقبضة الحديدية ضد عمال المناجم والاتحادات النقابية البريطانية لفك اضراباتهم واعتصاماتهم ضد سياستها وسياسة حزب المحافظين الذي تزعمته بعد فوز الحزب في الانتخابات البرلمانية في عام 1979 – نقول ان السيدة ثاتشر كانت محظوظة لأن السياسة الاقتصادية الـ “نيو ليبرالية” التي اتبعتها منذ وصولها لعشرة داوننع ستريت، تزامنت بمحض الصدفة مع ارتفاع انتاج بريطانيا من نفط وغاز بحر الشمال، أي مع ارتفاع المداخيل الريعية للخزينة البريطانية، والا ما كان لهذه السياسة التي راكمت الغنى الفاحش في جانب والفقر في جانب آخر على المدين المتوسط والبعيد، ان يُكتب لها النجاح.
وعود على بدء، فان القول بقيام عديد الحكومات عبر التاريخ للهروب من استعصاءاتها الداخلية بتصديرها للخارج يصدق على مغامرة الرئيس الفرنسي نيكولا سركوزي ورئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون بمحاولتهما تحويل الأنظار بعيدا عن بلديهما المأزومين ماليا واقتصاديا، فكان تورطهما مباشرةً في الحرب التي شنها حلف شمال الأطلسي على ليبيا للإطاحة بالنظام الحاكم المستبد الذي تسيّده معمر القذافي منذ عام 1969، لا من أجل تمكين الشعب الليبي من حريته وحقه في إقامة نظام ديمقراطي يلبي طموحات الشعب الليبي كما أشاع كل منهما، وإنما هي رائحة الخزين النفطي والغازي الضخم الأخاذة التي حركت شهية الغزاة الجدد، في إعادة غير حميدة لأساليب النهب الكولونيالية العتيقة.
هي أساليب هيمنة واستحواذ متجددة وان غُلّفت “باكسسوارات الجذب” اللازمة، وهي تؤسس لنوع آخر، جديد أيضا، من الحروب الصغيرة في المنطقة .. حروب قبلية في ليبيا على ذات النمط الذي جُرب في أفغانستان وفي العراق وفي السودان والذي أنتجت ظروفه الملتبسة تنظيم القاعدة الإرهابي وتشكيلاته وتفريعاته المزدهرة بفعل تلك المغامرات الحربية والأطماع التي تغذيها.
فلا تعتقد فرنسا/سركوزي على وجه الخصوص ان أطماعها المتجددة في الشمال الأفريقي، والتي أسفرت عن وجهها في الحالة الليبية التي نحن بصددها، يمكن أن تكون ظروفها المنتجة (بكسر التاء) استثناءً بالنسبة للظروف المشابهة التي انتجت الحركات المناهضة للمصالح الغربية والتي اتخذت اشكالا مختلفة.
فما أن يسدل الستار على مسرح الحدث وتتضح الصورة أكثر فأكثر حتى تبدأ الاستفاقة ويبدأ الفرز والاستقطاب القبلي والوطني حول رحى النتائج التي أفضى إليها المتغير الفرنسي والأطلسي في المعادلة الليبية الجديدة، ما يرجح احتمالات تكرر السيناريو العراقي وظهور تشكيلات مسلحة على غرار المليشيات المسلحة التي انتشرت في العراق بعد سقوط نظام صدام حسين واعتمدت العنف والمقاومة المسلحة سبيلا لمكافحة القوات الأجنبية الغازية.
وحينها ستمتد الصراعات في ليبيا وتتحول البلاد رويدا رويدا من الحالة الثورية الى الحالة الفوضوية والانتقامية على الطريقة العراقية إياها. فالقبائل المنقسمة والمتنافرة والمتقاتلة حقيقة قائمة على الأرض، وعدة القتال المتمثلة في السلاح الذي صار موزعا ومنتشرا بصورة واسعة ومنفلتة، هي الأخرى موجودة.
ولا نقول سوى اللهم احفظ ليبيا وشعبها.