المنشور

رئيس الغفلة!


ربما سحرك بشخصيته كخطيب مفوه وبمفردات خطابه التي تجرأت على ملامسة جانب من جوانب الضعف والهشاشة في النظام المؤسسي الأمريكي وفي بنيان الدولة الأمريكية ومقومات استدامتها وفتنة حلمها الذي صار استمرار الادعاء به زعما مُرسَلا. فقلة من الرؤساء الأمريكيين من تجرءوا على تسليط الأضواء على تلك “البقع الداكنة” في النظام المؤسسي وفي بنيان الدولة الامريكية ومنهم وابرزهم دوايت ايزنهاور الرئيس الرابع والثلاثين الذي حكم خلال الفترة من 1953 الى 1961. فهو أول من أطلق تحذيره الشهير للشعب الأمريكي من مغبة هيمنة شبكة مصالح رأس المال المستثمر في الانتاج الحربي مع زمرة من الجنرالات في وزارة الدفاع الامريكية (البنتاغون)، على مستقبل البلاد ورفاهها الاقتصادي وحرياتها المدنية. حيث أفصح عن هذا الخطر الداهم في خطابه الوداعي الشهير الى الأمة في 17 يناير/كانون الثاني من عام 1961 بالقول: “ان اتحاد المؤسسة العسكرية الضخمة مع الصناعة الحربية الواسعة لَيُشكل ظاهرة جديدة في التجربة الامريكية، وان تأثيرات هذا المجمع الصناعي-الحربي (وكانت هذه أول مرة يُستخدم فيها تعبير المجمع الصناعي-الحربي) الاقتصادية والسياسية وحتى الفكرية لَتُلمس في كل مدينة وفي كل حكومة كل ولاية وفي أية دائرة من دوائر الحكومة الفدرالية…..”.
 
ولسوف يُسجَّل للرئيس باراك أوباما أيضا بأنه أحد الرؤساء الأمريكيين القلائل الذين تجرءوا على تسليط بعض الضوء على بعض أوجه الاختلالات الهيكلية، الجوهرية، في المؤسسة الامريكية الحاكمة. فقد جاء بحملة انتخابية محورها التغيير وشعارها “نعم نستطيع”. ولم ينتظر الرئيس أوباما “الوقت المناسب” (كما فعل دوايت آيزنهاور عندما ضبط توقيت تصريحه المدوي الشهير بشأن خطورة ما أسماه بالتجمع الصناعي-الحربي على المجتمع الامريكي مع انتهاء فترة ولايته الثانية)، وانما سارع لطرح أحد أهم محاور مخططه للتغيير، وهو تعميم فوائد وعوائد نظام الخدمات والرعاية الصحية، تحقيقا للعدالة الاجتماعية التي أخل بها توحش نموذج الرأسمالية الامريكية. ولربما كانت هذه إحدى سقطات الرئيس أوباما التي بسببها فتح على نفسه مبكرا أبواب عواصف مراكز قوى المصالح الكبرى النافذة، لاسيما اليمين المتطرف الذي جاء الى الكونغرس بأكثر أجنحته تطرفا وهو “حزب الشاي” لينهض كابوسا منغصا على كل حركة أو إيماءة يبديها الرئيس أوباما وحزبه الديمقراطي. حيث استثمر هذا الجناح المتطرف الأغلبية التي يتمتع بها الجمهوريون في مجلس النواب والتجليات الاجتماعية للأزمة المالية والاقتصادية التي تعاني منها البلاد، وراحوا يطلقون بمكر ودهاء شديدين حملات تخويف للأمريكيين مما أسموه السياسات المتخبطة للرئيس وحزبه الحاكم، فكان أن انهار الرئيس وخضع لابتزازهم عند أول معركة حقيقية يخوضها لانفاذ برنامجه للتغيير الوطني الذي أوصله الى البيت الابيض، وكان ذلك في اختبار القوة الذي خاضه مــع
 
 
 
 
 
 
 
 
الزمرة الصغيرة من نواب حزب الشاي  في موضوع رفع سقف الاستدانة الوطني، فخذل بذلك أتباعه وأنصاره الذين عوّلوا عليه في إحداث التغيير المطلوب في ميزان القوى الاجتماعية من خلال إعادة نشر الثروة وتحقيق نوع من التوازن المختل بصورة فظيعة بين مختلف فئات المجتمع الامريكي.
 
فكان ذلك إيذانا ببدء فقدان الرئيس لمصداقيته في الداخل الامريكي، ثم سرعان ما يفقدها في الخارج أيضا اثر خطابه الاسرائيلي الفاقع يوم الاربعاء 21 سبتمبر/ايلول 2011 أمام الاجتماع السنوي للجمعية العامة للامم المتحدة. فلقد كان ذلك الخطاب رثا بائسا بتزلفه الفاضح لجمهور الناخبين الامريكيين اليهود ولمافياتهم الاوليغارشية بصورة لا تصدق، خصوصا حين يضع المراقب هذا الخطاب قبالة خطابات الرئيس أوباما في جامعة القاهرة وتركيا واندونيسيا. حتى الصحف الامريكية وبعض كتاب الصحف الاسرائيلية، وقد صدمتهم “اللغة الاسرائيلية” التي استخدمها أوباما في خطابه، لم يترددوا في انتقاده وانتقاد خطابه بل وحتى الهزء به والسخرية منه ومن طريقة استجدائه لليهود الامريكيين لمد يد العون له في انتخابات العام المقبل.
 
الرئيس أوباما، بهذا المعنى، ينطبق عليه القول المأثور “أسمع كلامك يعجبني أرى أفعالك أتعجب”. وقد يقول قائل انما هذا، على أية حال، هو ديدن السياسة والاستخدامات المراوغة والماكرة لأدواتها وتجهيزاتها غبر التاريخ. وهذا قول لا غبار عليه ولا جدال فيه إلا حيثما اقتضى بعض تفصيلاته الاشكالية ذلك.
 
ذلك في الاطار العام للجدل المجرد حول السياسة وفرسانها الحاذقين والماهرين، والخائبين والمتطفلين عليها على حد سواء. أما في الاطار الخاص المتصل حصرا في الحالة النموذجية المثالية للدراسة والتحليل التي نحن بصددها، وهي حالة الرئيس باراك أوباما ومقاربته للسياسة التي رفعته الى أعلى مراتب ومراكز صناعة القرار في القوة العظمى الأولى في العالم، فان الأيام كشفت لنا كم أن هذا القائد الذي بدا للجميع تقريبا، لأول وهلة، ملهما، ليِّن العريكة سرعان ما يتسلل اليه الضعف فيستسلم وينكسر وهو ما لا يليق بطبيعة الحال برئيس دولة عظمى تشكل قيم القوة والتفوق والإقدام ركنا أساسيا في ثقافتها. 
   
وعلى ذلك وإزاء حالات الضعف التي أظهرها الرئيس أوباما في بعض القضايا الحاسمة والحساسة، فان المتوقع أن يدفع ثمن هذا الضعف المتجسد في تنازلات وتراجعات فاضحة بالانضمام الى زمرة الرؤساء الامريكيين الذين لم يعمروا في الكرسي الرئاسي للبيت الأبيض سوى دورة واحدة، وجلهم تقريبا ينتمون الى الرعيل الأول من الرؤساء الامريكيين مثل جون آدمز (1797-1801)، وجون كوينسي آدمز (1825-1829)، ومارتن فان بورتن (1837-1841)، وجيمس بولك (1845-1849)، وميلارد فيلمور (1850-1853)، وفرانكلين بيرس (1853-1857)، وجيمس بوكنان (1857-1861)، وأندرو جونسون (1865-1869)، وروثرفورد هيس (1877-1881)، وتشيستر آرثر (1881-1885)، وجروفر كليفلاند (1885-1889)، وبنجامين هاريسون (1889-1893)، وهربرت هوفر (1929-1933)، وأخيرا جيمي كارتر (1977-1981).   
 
فهل يتمكن الرئيس أوباما من إنقاذ عهده فيما تبقى له من بضعة أشهر؟
 
كل شيء جائز طبعا في السياسة وفي “لعبة” موازين القوى التي تتحرك في خضمها. بيد ان حظوظ الرئيس أوباما تبدو ضئيلة للغاية إن لم تكن معدومة في ضوء الحالة السيئة للاقتصاد الامريكي، فضلا عن إدارته المهتزة والمتذبذبة التي خذل بها جمهور ناخبيه.
 
سمعنا عن عريس الغفلة، ويبدو أننا على موعد قريب مع رئيس الغفلة!