المنشور

الديمقراطية الهندية إذ تجدد نفسها


تعتبر الديمقراطية الهندية في حكم التجارب الديمقراطية الشابة في “العالم الثالث” وفي العالم قاطبة. فعمرها من عمر انعتاق الهند من ربقة الاستعمار واستقلالها عن بريطانيا في عام 1947.

ومع ذلك فإن الديمقراطية الهندية تندرج في مصاف الديمقراطيات العريقة في العالم، من حيث انها تستوعب أوسع تمثيل مصلحي لكتلة بشرية تربو على المليار نسمة، ومن حيث جوهرها التداولي السلمي للسلطة، حيث الكلمة الفصل في هذا التداول تعود إلى صوت الناخب الحر والصندوق ألاقتراعي. فكان أن وفرت هذه الصيغة المجتمعية التوافقية (التعاقدية) لتداول السلطة في إطار المنافسة البرامجية، المختبرة المصداقية، للأحزاب السياسية والحركات الاجتماعية الهندية – أن وفرت الاستقرار المنشود للهند، والذي مكنها بدوره من الالتحاق بركب الدول الصاعدة إلى قمة المجد الاقتصادي والتنموي في العالم، رغم ما تزخر به خريطتها الاجتماعية من قوميات وأثنيات وديانات وطوائف لا حصر لها، يجمعها العيش المشترك المُشاد على أساس المواطنة التي تساوي بين الجميع في الحقوق والواجبات.

ومع الثورة الاقتصادية التي أطلقها بامولابارتي فينكاتا ناراسيمها راو رئيس وزراء الهند خلال الفترة من 1991 – 1996 على غرار ثورة دينغ هسياو بينج في الصين في عام 1987، حيث أطلق العنان للمبادرة الخاصة وفتح أبواب الاقتصاد الهندي أمام الاستثمار الأجنبي – فقد كان لابد وأن يترافق ذلكم التوسع الرأسمالي الشرس مع اتساع نطاق الفساد في مختلف أجهزة السلطة، التنفيذية والتشريعية والحزبية.

ومن المفارقات التي تُذكر في هذا الصدد أن حكومة بامولابارني فينكاتا ناراسيمها راو، وهو الزعيم الذي خلف رئيس الحكومة الراحل راجيف غاندي في زعامة حزب المؤتمر بعد اغتياله على أيدي المتشددين التاميل، والذي أطلق، كما أسلفنا، شرارة الإصلاحات الاقتصادية الكاسحة – المفارقة أن حكومته قد سقطت تحت دوي فضيحة فساد كبرى في عام 1996، دفع ثمنها حزب المؤتمر الحاكم في الانتخابات التي أُجريت في ذلك العام، حيث فقد السلطة لصالح ائتلاف أحزاب اليمين قبل أن يتمكن حزب بهاراتيا جاناتا الهندوسي القومي المتشدد الذي تأسس في عام 1980، كثاني أكبر الأحزاب الهندية بعد حزب المؤتمر العريق، من إدارة دفة الحكم في البلاد في عام 1998 بقيادة مؤسس وزعيم الحزب آتال بيهاري فاجبايي.

ولكن سقوط حكومة حزب المؤتمر برئاسة ناراسيمها راو تحت صدمة فضيحة الفساد في ذلك العام، لم يكن إيذاناً بفتح ملف الفساد المستشري بفعل التوحش الرأسمالي. فكان لابد للديمقراطية الهندية كآلية تسيير مجتمعية مستقرة، من أن تستدرك هذا الاختلال الخطير بين غاية الديمقراطية الهندية كآلية لترشيد الأداء الإنتاجي الكلي وتنقيته من الشوائب وبين ما آلت إليه محصلتها خصوصاً في العقدين الأخيرين.

ومع أن الديمقراطية الهندية لا تعدم وسائل تصحيحها الداخلية، فقد جاءها المدد من الفلسفة الغاندية التي تعتبر الأب الروحي للديمقراطية الهندية بما تمثله من نقاء وتصوف سياسيين.
فلقد اختار الناشط وداعية الحقوق المدنية الهندي “آنا هزاري” طريق إحياء التراث النضالي لزعيم الهند الأعظم المهاتما غاندي المتمثل في النضال السلمي وبضمنه الإضراب عن الطعام من أجل لفت الانتباه وإثارة الرأي العام الهندي إلى خطر الفساد المحدق بالأمة وبالدولة الهندية. وعلى مدى ثلاثة عشر يوماً من إضرابه استطاع هذا الشيخ الجليل (73 عاماً) استقطاب تأييد ملايين الهنود لحركته السلمية، وإجبار الحكومة والبرلمان بالموافقة على أهم مطالبه المتمثلة في سن قانون لإنشاء ما يسمى “لوكبال”، وهي هيئة مستقلة للتحقيق في قضايا الفساد وملاحقتها جنائياً وقضائياً. وبعد إعلان رئيس الحكومة الهندية ماموهان سينج قرار البرلمان بالموافقة على معظم مطالب هزاري، أنهى الأخير إضرابه عن الطعام بأخذه كأساً من مشروب جوز الهند من طفلين سلماه إياه كي يدشن إنهاء إضرابه عن الطعام، لترتفع الحناجر بعدها مرددةً: “دع الشعلة مشتعلة أيها الأب هزاري، فمعركة التغيير قد انطلقت، ونحن معك” فأجاب هزاري الحشود قائلاً بأنني سوف أواصل حملتي إلى أن ترى “لوكبال” النور”.

في ذات الوقت سوف يستثمر هزاري وأنصاره انتصارهم في قضية الفساد بالمبادرة لتوجيه الأنظار وتركيز الاهتمام على قضايا أخرى لا تقل إلحاحاً وإشكالية، مثل تعزيز صلاحيات وإمكانيات المجالس القروية وإعادة تجديد وتحديث النظام الانتخابي بما يُمكِّن الناخبين من رفض السياسيين الذين يخذلونهم.
وكما قال هزاري “لقد أنهيت إضرابي عن الطعام ولكن نضالي سوف يتواصل إلى أن تتحقق كل تلك الأهداف.
لقد انتصر المجتمع المدني الهندي على الحكومة الهندية في واحدة من أهم معارك إعادة صياغة النظام الديمقراطي الهندي، وأثبتت حركة هزاري أن النظام الهندي يمكن أن يعمل وأن يتطور سلمياً، فقد سير أنصار حركة هزاري مظاهرات ضخمة في قلب العاصمة الهندية من دون أن تتخللها أعمال عنف أو مواجهات بين الشرطة والمتظاهرين.