المنشور

الشرق الأوسـط الجـديـد


في ليبيا حرب تطيح نظام العقيد معمر القذافي الذي أمسك بخناق الشعب الليبي لمدة تربو على الأربعين عاماً (منذ عام 1969)، وكان يزعم أنه لم يكن سوى نظام جماهيري ليس له أو لأنجاله أو لأفراد أسرته وحاشيته، أي دور في تسيير أموره .
 
في سوريا جماهير ثائرة تروم الحرية، وصراع دولي عنيف وسافر تلقي خلاله الولايات المتحدة وحليفاتها الأوروبيات بكامل ثقلها من أجل تسريع وتيرة سقوط النظام الذي طالما سبب صداعاً للغرب وللسياسات الغربية في منطقة الشرق الأوسط .
 
يضاف إلى ما تقدم حالة المراوحة والضبابية التي مازالت تكتنف المرحلتين الانتقاليتين اللتين تجتازهما مصر وتونس حتى بعد مرور نحو ستة أشهر على نجاح الثورتين الشعبيتين المصرية والتونسية في إسقاط النظامين، وحيث تعمل القوى الدولية التي تعدّ نفسها “مساهماً” فاعلاً في إطاحة رموز ذينك النظامين، بهمة ونشاط من أجل الإمساك “بلجام الفرس” كي تضمن ألا “يجمح” هنا أو هناك، وأن تحتوي حالة التغيير لتضعها في إطار حدود سقف “الديمقراطية الموجهة” بما يعمل على تحسين وتفعيل آليات عمل النموذج السياسي الاقتصادي السائد في البلدين، من دون الاضطرار إلى إحداِث تغييرات على مصادر السيطرة والقيادة فيهما .
 
وفي اليمن، حيث طال وامتد أمد أزمة الحراك الشبابي الذي أطلق مطلع العام الجاري حركة الاحتجاجات الشعبية الواسعة المطالبة بالتغيير قبل أن تدخل على خطها المعارضة اليمنية وتصبح جزءاً فاعلاً فيها، وذلك على ما هو ظاهر من معطيات مقروءة، ناتج عن عدم رسو القوى الدولية التي تتحرك  عبر الدبلوماسية الناعمة البعيدة عن الأضواء  على الشكل المناسب للحكم في اليمن المتوافق ومذهب “الديمقراطية الموجهة” إياه . ويبدو أن تعقيدات الوضع اليمني التي نعرِف، تَحُول حتى الآن دون الوصول إلى مقاربة حكم ملائمة تحقق “صياغة” الحكم المطلوبة . وكما يتضح من ملابسات المراوحة وعدم الحلحلة، يراهن صنّاع الحدث الشرق أوسطي السائل، على الوقت باعتباره الأداة المثلى لإفقاد حركة الاحتجاجات الشعبية اليمنية زخمها واضطرار نشطائها إلى القبول بالسقف المعروض عليهم .
 
حتى الآن تُظهر وقائع الأحداث على الأرض، نجاح خطة “إعادة هيكلة وغربلة” “وحدات” النظام الرسمي العربي الهادفة، على ما يبدو، إلى إقامة “الشرق الأوسط الجديد”، وهو المشروع الذي واجه مقاومة وممانعة شديدة من قبل بعض أركان وبنى النظام العربي القديم .
 
الإدارتان الأمريكيتان السابقتان، إدارة الرئيس الديمقراطي بيل كلينتون وإدارة الرئيس الجمهوري جورج بوش الابن، على مدى دورتين رئاسيتين متعاقبتين لكل منهما، جهدتا وعملتا طويلاً وبدأب من أجل إنفاذ هذا المشروع من دون أن توفقّا إلى إصابة النجاح المأمول .
 
الآن يبدو أن الإدارة الأمريكية الحالية قد وجدت أنّ الفرصة أصبحت أكثر من مواتية لها لكي “تعيد صياغة الشرق الأوسط” وفقاً للرؤية الأمريكية للديمقراطيات خفيضة السقوف التي تفتح الطريق أمام انسيابية أكبر لعناصر إعادة الإنتاج الموسعة: رأس المال والأرض والعمل، وتوفر مساحة أكبر لعملية السيطرة على مصادر التراكم الرأسمالي وإعادة توزيعه، بما يوفر زخماً أكبر للحركة المجتمعية ودينامياتها .
 
وكانت مراكز الأبحاث والدراسات الاستشارية الأمريكية التي تشكل مصدراً رئيساً لابتداع وابتكار الأفكار والرؤى “وتصنيعها وتخليقها” برامج وخططاً قابلة للإنفاذ، قد اهتدت إلى هذه الصيغة “التوفيقية”، المرنة، من إدارة الحكم في بلدان العالم الثالث، حيث ثبت لها بالدليل الملموس استحالة استمرار مراهنتها على أنظمة الحكم الشمولية إثر الانهيار التام لأنظمة دكتاتورية حليفة مثل نظام موبوتو سيسي سيكو في زائير، ونظام فيرديناند ماركوس في الفلبين، ونظام أحمد سوهارتو في إندونيسيا، وفقدان السيطرة على تداعيات ما بعد انهيارها .
 
إذاً، الرؤية الأمريكية الشرق أوسطية الجديدة  بالشراكة مع الحلفاء التقليديين الرئيسين في حلف شمال الأطلسي  بدأت تخطو وتسجل نجاحاتها الأولى في أكثر من موقع، وتنفيذها على الأرض يكتسب مع الوقت زخماً وتجاسراً أكبر وأوسع نطاقاً وسياقاً، بصورة تعيد إلى الأذهان التحالفات الأوسع نطاقاً التي تعمد الولايات المتحدة إلى إنشائها منذ الحرب العالمية الثانية، وليس انتهاء بالتحالف الدولي الواسع الذي أنشأته في عام 0991 لإطاحة نظام صدام حسين في العراق .
 
ولكن ما بين الشروع في تنفيذ الرؤية، وما بين إنجازها على الأرض، يوجد بون شاسع، سوف يتطلب جسره جهوداً فردية وجماعية بالغة التنسيق والمواكبة، وأموالاً طائلة، وحركة دبلوماسية دائبة ونشطة قد لا تستدعي الإقناع بقدر حاجتها المتاحة على أية حال، “إلى التمرير الفوقي” المستند إلى “القوة الناعمة” .
 
القوة المادية متوافرة، والطاقة على المواكبة التنسيقية هي الأخرى متاحة، وإن تخللها بعض التضارب المصلحي القابل للاحتواء . تبقى الأموال اللازمة لتمويل المشروع الكلي، فهي قد تشكل استعصاء في ضوء أزمة العجوزات والمديونيات التي تعانيها الولايات المتحدة وحليفاتها الأوروبيات .
 
ولكن حتى هذا الاستعصاء بالإمكان التغلب عليه عبر أقنية تمويل مختلفة، إنما سوف يتعين على الجميع الانتظار ليروا كيف ستكون ردة فعل القوى التي طالما وقفت تصدّ كل محاولات إنفاذ مشروع الشرق الأوسط الجديد . . الواحدة تلو الأخرى .