المنشور

صراعُ السلطةِ في الثورات


تحددت القوى الاجتماعية السياسية بثلاثٍ أساسيةٍ هي قوى الدول الحالية أو القديمة التي رحلتْ عن كراسي الحكم ومازالتْ تقاوم، وقوى الدينيين المتعددين، وقوى الليبرالية والتحديث والعلمانية.

التحول الذي أصاب الجمهوريات هو بسببِ الإرث القريب الشعبي الذي قامت عليه هذه الدول، وهو حراكٌ طويلٌ وطني مشترك تجسد في إقامة القطاعات العامة، وتجمد عبر نقصِ الدورةِ الدموية السياسية في عروقِ الأنظمة التي انسدت بالمصالح الخاصة.

العديدُ من المَلكيات العربية سارعت في تحريك دورتها الدموية السياسية قبل الحراك الشعبي للجمهوريات، للكشف عن المال العام وتغيير توزيعه بهذا القدر أو ذاك ومحاسبة الوزارات.

الجمهورياتُ هي التي تقودُ الدولَ العربية في الحراك السياسي الأكثر تقدماً الذي بدأ منذ منتصف القرن العشرين، بسبب تقدمها النسبي وإحتكاكها بالدول الغربية وتشكيل النهضة العربية الأولى، ولخبرةِ جماهيرها الشعبية النضالية الطويلة، وحين اعتمد بعضُ المَلكيات العربية على الديمقراطية وحركت دواليب الحياة السياسية بأشكال جديدة، وصعّدت الدولُ الغربيةُ من ضغوطها على بعض الجمهوريات المتكلسة في أنظمتها، حدثت التحولاتُ وبرزت القوى الاجتماعية الثلاث السابقة الذكر وبدأت تتصارع الآن لتحديد المسار القادم.

قوى الأنظمةِ الجديدةِ الراهنة والقديمة تتداخل، فالدولُ التي ظهرتْ فجأة بوجوه جديدة والوجوه القديمة التي هربت أو وُضعت في السجون، مازالت هي معبرة عن الطبقات القديمة المسيطرة على المال العام والأجهزة العسكرية والأمنية المختلفة، وهي لها رؤية مشتركة في التحكم الإداري الفوقي، ومحاولات أن تكون هي المحركة للحياة السياسية والاقتصادية والثقافية.

ويلعب القسمُ المهزومُ من هذه الطبقة دورَهُ في تفجير المعارك الجانبية وإثارة الفوضى وجر البلدان المتحولة إلى صراعات لا قدرة لها على حسمها كالهجوم على السفارة الإسرائيلية وإحداث معركة بين السلطة غير المتبلورة وقوى الخارج المتربصة، أو في تفكيك قوى الثورات، وتصعيد الصراع بين الدينيين من جهة والليبراليين والعلمانيين من جهة أخرى.

فكما أن السلطات القديمة غيرُ واضحةٍ في مستوياتها بين قديمٍ منهارٍ وقديم ارتفع للإدارة وقديم يحاولُ إصلاحَ ذاتهِ والقبول بالأجندة الديمقراطية، كذلك فإن الطبقةَ الجديدةَ الصاعدة لتسلم مهام الإدارة العامة ليستْ واضحة المعالم وغير متبلورة طبقيا وغير مبرمجة سياسيا وغير متحدة تنظيميا.

ولهذا فإن القوى القديمة تحاول افتراس الجديد وتفكيك صفوفه، وتشويه ما هو بارز عبر التفجيرات الايديولوجية والأمنية وخلط الأوراق، فهي كذلك تزايد على الشعارات وتغير الأحزاب القديمة بأسماء جديدة.
وتناقض قوى الثورات بين دينيين وليبراليين علمانيين، هو البؤرة الأساسية لعملية التفكيك، عبر جعل الدينيين يركزون فيما هو خاص بهم لدرجة التعصب، ويدفعونهم لاستعجال المعارك والانتخابات، مثلما يدفعون القوى الليبرالية وحلفاءها إلى التنديد بممارسات الدينيين وخطورتهم على الديمقراطية والحداثة.
معركة السلطات هي المعركةُ المركزية، ولا يوجد لدى القوى الحديثة والمشاركة في عمليات التغيير برنامج مشترك، يركز في القبول بالآخر، والاحتكام لصناديق الاقتراع، والتوجه للإصلاحات المشتركة في القطاعات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

فهناك جوانب مشتركة كبيرة بين الدينيين والليبراليين حين تُحيد القضايا الايديولوجية ويتم التركيز فيما يهم غالبية الشعب، من تطوير الاقتصاد والمعاش والحريات.
لكن بعض القوى الدينية مستعجلة في إجراء الانتخابات للحصول على أكبر نسبة من المقاعد، مما يعني تقزيم القوى الأخرى التحديثية الليبرالية العلمانية، وتغليب قوى الأرياف على أهل المدن، وتغليب الذكور المتشددين على النساء وعلى الحريات العامة والخاصة، وبقاء المؤسسات والأجهزة القديمة المتحايلة على الجميع.
لكن لابد أن تكون الطبقات الحاكمة الجديدة غير متشبثة بحدة بالأجهزة، بل تكون متداولة، وذات شفافية عالية، بحيث تؤدي إلى تنظيف هذه الأجهزة من الجماعات غير المخلصة للدول ولعدم استمرار بيروقراطيتها المتكلسة، وهو أمر شديد الصعوبة لكنه ممكن.

وهي مصلحةٌ مشتركة بين القوى الدينية والعلمانية، التي لم يكن لها نصيب في الماضي الحكومي السياسي، وهي مصلحة قومية عربية كذلك، لأن تطور الجمهوريات ديمقراطيا وطنيا، سيكون تطورا قوميا أيضا.
وهذه مشكلة عميقة فكرية ضاربة الجذور في التنظيمات السياسية الدينية والعلمانية، لكون كل منها قد اعتمد على مصادر فكرية مختلفة، وتكونت له منهجيات ورؤى مغايرة، فهذا يريد نقل الماضي بحرفيته، وهذا يريد نقل الغرب العصري بكل شكلانيته، ومن هنا تتعدد المقاربات من تطرف في نقل الماضي كالسلفيين وبعض المرونة لدى الاخوان، وهو أمرٌ يعكس منبت هذه القوى الاجتماعية بدءًا من أعماق الريف والبوادي، أو ظهورهم في المدن، فيتم التركيز في الأحوال الشخصية بدلاً من أحوال المُلكية العامة، وقضية الأحوال الشخصية والأحكام فيها يمكن أن تُوضع وتُحل وتُدرس بشكل جانبي، لا أن تكونَ في بؤرةِ قضية الشعوب المتوجهة لحل قضايا الفقر والبطالة والتخلف الاقتصادي، مثلما أن الليبراليين والعلمانيين يركزون في الحريات بشكل يضربُ حيناً الحريات الشخصية أو لا يهتم بعضهم بالمُلكية العامة وتطوير دورها.

فلابد من أجندة عامة مشتركة واحترام لآراء الناخبين واختياراتهم ومواصلة التعاون بين القوى السياسية والاجتماعية الجديدة لمصلحة تطور البلدان العربية.
 
أخبار الخليج 17 سبتمبر 2011