المنشور

«الفتنة» بين قسوة الخطاب وشهوة الانتقام (1) – محمود القصاب


ليس هناك من يجادل في أن بلادنا تعيش مرحلة غير مسبوقة في تاريخها الوطني السياسي والاجتماعي، وأنها مرحلة بالغة الخطورة تحمل في طياتها العديد من «المكائد» و «الشرور» وتستبطن الفتنة التي قد تحرق الأخضر واليابس، لا قدر الله لو استمرت الأوضاع بهذه الوتيرة من الخصومة وغياب الألفة بين مكونات المجتمع كما كانت دائماً؟
 
ليس في هذا القول أية مبالغة، أو أي خوف مصطنع، طالما نحن نرى ونلمس «تجذر» الفتنة على أرض الواقع وفي داخل النفوس، وأنها (الفتنة) ترتدي كل يوم وجهاً جديداً، تجعل المراقب يصل إلى قناعة تامة بأن وراء ما يحصل أهدافاً خفية وأبعاداً مستورة تستحق الكشف عنها، بل وفضحها، وخاصة في ظل زحمة الاستقطابات المذهبية والطائفية، وبقاء كل الأطراف منغلقة على «مواقفها» لا تستطيع الخروج منها.
ومفهوم «الفتنة» هنا لا يحتمل سوى معنى واحد فقط هو كسر لروح الشعب، وشحن هذه الروح بالكراهية والأحقاد التي توغر الصدور؟
 
إن الظروف الراهنة، بقدر ما تستدعي الحذر واليقظة فإنها تستدعي أيضاً وقفة صادقة ومسئولة، من جميع القوى والأطراف، وخاصة «الدولة» من أجل إعادة النظر في أولويات المرحلة على قاعدة الشراكة في الوطن وانطلاقاً من المصالح الوطنية لشعبنا وبلادنا.
وأول الخطوات المطلوبة في هذا الاتجاه، القراءة الصحيحة لحقائق واقعنا الوطني والسياسي وأولوياته، فالمشكلة الأساسية والمحورية التي يكشف عنها هذا الواقع – والتي يجب أن تحتل الأولوية القصوى – هي قضية سياسية، وهذا يستوجب تخلي الدولة عن اعتماد الحلول الأمنية، التي تزيد الأمور تعقيداً والتي تجعل الخروج من «العاصفة» أمراً مستبعداً، بل ومستحيلاً، كذلك تستوجب طبيعة الأزمة وتداخلاتها القيام بعملية عاجلة لفض «ممازجة» الديني والمذهبي بالسياسي، وبالطريقة الهابطة والاستفزازية التي تتصدر المشهد السياسي عندنا، وهذه مسئولية بعض القوى السياسية والمجتمعية.
 
نحن هنا لا نطالب الناس بالخروج من جلودهم أو ترك انتماءاتهم الطائفية أو المذهبية، بل ما نطالب به وندعو إليه هو ترك العصبيات الموروثة في العمل السياسي وترك «الكيدية السياسية» التي تغرس العداوة والتشكيك بالآخر؟
فهذه «العصبيات» و«الكيدية» ليست لها علاقة بالمشاعر الوطنية الحقيقية، كما ليست لها علاقة بالانفعالات من أجل الوطن، كما يدعي البعض ويحاول إيهام الناس بذلك، بل إن الحقيقة تقول إن هناك أهدافاً تتعدى المبررات الوطنية والسياسية، وتدخل في إطار المصلحة الذاتية ومحاولة «التنفع» على حساب أوجاع ومظالم الناس، ومحاولة «التصدر» والبحث عن «وجاهة» «غارقة» في النفاق السياسي حتى الأذنين؟
 
ما نريد قوله هنا، هو أن جميع القوى والأطراف مطالبة في مثل هذه الظروف الحرجة، الإقدام على خطوات تعبر عن الرغبة في التسامح والسلم الأهلي، انطلاقاً من الشعور بأن استمرار المراوحة في هذا الواقع وبهذا الشكل من التصلب والتشدد، وبهذه الصورة المفزعة، يعني أننا جميعاً سائرون نحو «فتنة» سياسية واجتماعية، يصعب التنبؤ بنتائجها أو زمن نهايتها؟ كما أن هذه القوى عليها أن تدرك أن أكثر ما يضر القضايا العادلة هو التعبير عنها بأدوات أو وسائل سيئة، وهذا يعني أن مسئولية هذه القوى وواجبها هو الإفصاح عن أهدافها ومطالبها بشكل واضح وقاطع، بحيث لا يترك معه أي مجال للشك أو التأويل، أو يفتح مجالاً للاستغلال من أية جهة للطعن في صدقية تلك المطالب والأهداف، وهذا يستدعي ترشيد الخطاب السياسي وتهذيب الشعارات وتنقيتها من أية تجاوزات مسيئة.
فلسنا في حالة حرب أو خصومة شخصية مع أحد، وهو ما يستوجب احترام قادة البلاد ورموزها السياسية، والتعامل مع كل قضايا الوطن بصورة حضارية ومتفتحة.
 
فنحن في نهاية المطاف قوى سياسية وطنية تعمل في اتجاهين لا ثالث لهما، الأول «الشرعية والعلنية»، ورفض العنف والفوضى وكل المواجهات أو المجابهات التي لا طائل منها، وبالتالي تحركنا هو في إطار ومتاح لميدان العمل السياسي، والعمل بشكل دستوري لتطوير هذا الميدان والوصول به إلى أقصى مداه الديمقراطي والدستوري أي الوصول إلى المملكة الدستورية الحقيقية.
أما الاتجاه الثاني هو الاتجاه «الوطني الديمقراطي» الذي يمثل إرادة شعبنا بكل أطيافه ومكوناته وعدم السماح مطلقاً بوجود أية «ثغرة» أو «شبهة» يمكن أن تتسلل أو تنفذ منها أية أجندات إقليمية أو دولية تتعارض مع مصالحنا الوطنية أو تمس سيادة الوطن واستقراره ووحدة شعبه.
 
باختصار المطلوب تغليب مصلحة الوطن، على المصالح الخاصة والمصالح الفئوية، لأن الوطن هو الباقي، وما عداه كل شيء إلى زوال طال الزمن أو قصر؟ ترى أين تكمن هذه المصلحة؟
الإجابة على هذا السؤال لا تقبل المراوغة ولا تتحمل التسويف، إنها في الإحساس بالمسئولية الوطنية، واحترام حقوق المواطنين وكرامتهم! والعمل على إقامة نظام ديمقراطي حقيقي، على أسس راسخة وقوية، وفي مقدمة هذه الأسس احترام حقوق الإنسان، وليس مجرد إعادة صياغات تجميلية هنا، وخطوات ترقيعية هناك؟
 
عندما تراعي الدولة هذه المبادئ، وتعمل على تطبيقها فإن الأوضاع المضطربة ستستقر، والسلم الأهلي سيترسخ، وسينصرف الجميع إلى البناء والتطور، أما الإصرار على تجاهل المطالب العادلة والمشروعة للناس ومواجهتها بالقمع وبالحلول الأمنية وحدها، واللجوء إلى العقاب الجماعي واعتماد بعض الإجراءات الإقصائية فإنها ستزيد الأمور تعقيداً، والأزمة تفاقماً، والأوضاع انهياراً؟
إن التنكر لإرادة الناس وحقوقهم المشروعة، يعني ضياع للبوصلة السياسية، التي لا يمكن لسفينة الوطن أن تبحر من دونها، وخاصة في مثل هذه الأجواء العاصفة، التي تهب فيها رياح التغيير، وتجتاح كل الساحات العربية.
 
إن للمصالحة الوطنية وجوها عديدة، ليس الصفح والعفو، وعودة المفصولين سوى بعض هذه الوجوه التي يجب أن تستتبع بالتخفيف عن أحوال الناس، وتحسين أوضاعهم الحياتية، بدل إفقارهم، أو إبقائهم في دائرة العوز والمذلة، وأن تتزامن هذه الخطوات مع التوجه إلى وضع مقومات التحول الديمقراطي الصحيح والحقيقي وتأكيد ثقافة حقوق الإنسان ودولة القانون والمشاركة السياسية.
أما أتباع سياسات تسير بعكس هذا التوجه التصالحي، فإن ذلك يعني أن هناك إصراراً على أن يدفع الوطن «أثماناً» و «تكاليف» لا مبرر لها، وإلى فترات زمنية لا يعلم سوى الخالق عز وجل كم ستدوم طالما بقي أفق الحل السياسي مسدوداً، وظل الاحتقان الطائفي متصاعداً.
 
فالمعالجات الأمنية وحدها، دون أية اعتبارات قانونية أو إنسانية ليس بوسعها إلغاء أو تغيير قناعات الناس، وواهم من يعتقد أو يتصور أن اللجوء إلى سياسة الإذلال ومحاربة الأرزاق، ستجعل الناس يتراجعون عن التمسك بحقوقهم أو يتخلوا عن مطالبهم العادلة، بل على العكس ستزيد من استعدادهم على الصبر والتضحية للوصول إلى تلك الحقوق، ومواجهة ما يرونه من ظلم وغياب للعدالة والمساواة، وكلما طال زمن المواجهة، وكلما قست عليهم الظروف وزادت عذاباتهم، عادوا واكتشفوا أنفسهم من جديد، واكتسبوا مزيداً من المناعة والإصرار؟ ونكون بذلك قد حفرنا جروحاً جديدة وعميقة في النفوس، عوضاً عن تضميد الجراح القديمة، وقمنا بتهيئة الأسباب والظروف أمام «دعاة» الفتنة ليبرزوا ويمارسوا دورهم التخريبي في كل المجالات المتاحة لهم. للحديث صلة
 
 
الكاتب محمود القصاب
صحيفة الوسط البحرينية –  13 سبتمبر 2011م