المنشور

الإدارة.. ثم الإدارة ..!


ثمة حزمة معتبرة من الأسباب التي تجعلنا ننظر باهتمام وتقدير ما ذهب إليه مشاركون في إحدى الجلسات ذات الصلة بالمحور الاقتصادي في حوار التوافق الوطني الذين رأوا بأن أزمة الإدارة تمثل احد أهم واكبر التحديات التي نواجهها. ويبدو إنهم أكدوا على ذلك من واقع المعرفة والتجربة والمعطيات والتطلعات. حقاً الادارة هي وراء كل نجاح، وهي ايضاً خلف وفوق وامام كل إطارات الفشل والإخفاق والعقم، وعلى هذا الأساس فان الادارة المتخلفة الضعيفة هي التي تكبل انطلاقة المجتمع، اي مجتمع، وهي التي تسيء الى المواطنة، وتشكل عبئاً على الاقتصاد الوطني الذي يحتاج الى جذب المستثمرين واكتساب ثقتهم، وهم الذين يكفيهم عدم شفافية الإجراءات والمعاملات وما يتعرض له بعضهم احياناً من «تحت الطاولة»، ومهما امتلكنا من اجهزة ومعدات افضل وترتيبات وتنظيمات متقدمة وليس عندنا ادارة تمتلك كل مقومات الكفاءة والجدارة والاستحقاق والنزاهة فلا خير في ذلك. اما الادارة الناجحة فهي الادارة الفاعلة، والمرنة والناجزة والمدركة لدورها ولا تنساق للأهواء الخاصة أياً كانت ولا تخلق دوائر الشلل والمحسوبية، وما يتعارض مع المصلحة العامة، ولا تتبنى استراتيجيات وهي لا تفهم في الاستراتيجيات الا اسمها، وهي التي لديها القدرة على ان تمارس فن التعامل مع مشاكل وقضايا الناس، والادارة الناجحة هي ايضا التي لا تنتظر توجيهات لكي تعمل، ولا تعوّل على تعليمات لكي تنجز ولا تأكل من رصيد ما تمارسه من عمل بل تضيف الى هذا الرصيد، ولا تطلق خطط عمل بالجملة لا نجني من ورائها سوى الخيبة. والادارة الناجحة هي التي تضع ارفع المناصب «منافسة» بين الاكفأ والأجدر والانفع والأنزه والقادر على ان يكون بمنأى عن سياسة اللامسؤولية، وبعيدا عن الارتجال والعشوائية والقرارات غير المدروسة، وهي ايضا الادارة المبادرة وقت الحاجة الى المبادرة، ومسؤولة لا تحجم وقت اتخاذ القرار. الادارة الناجحة هي التي تعطي الاعتبار للعقلية المتحررة التي تأبى الجمود والانغلاق والبيروقراطية وتسعى للابتكار والتطوير وهي التي لا تجعل من يعتلي المسؤولية مشتتا بين مهام كثر من لجان، ولجان فرعية ومجالس ادارة وعضوية في هيئات ومؤسسات لتتكرس ظاهرة التخمة في المركز وفقر الدم في الانجاز. ويبدو ان الذين اشاروا في الحوار الوطني الى تحدي الادارة، والذين دعوا الى وضع الرجل المناسب في المكان المناسب وخرجوا بمرئيات متوافق عليها تدعو الى الدقة والكفاءة في التعيينات والى الارتقاء بكفاءة وجودة الخدمات الحكومية، والى اعتبار الابتكار والابداع من المرتكزات المستقبلية وغير ذلك من المرئيات التي تصب في اتجاه التأكيد على اهمية ودور الادارة يبدو ان هؤلاء قد اكتشفوا ان الاصلاح الاداري متصل بالاصلاح السياسي، والاصلاح الاقتصادي وبأمور كثيرة تتعطش اليها البلاد، مثلما هو مرتبط بمعضلات وأخطاء وتجاوزات آن لنا ان نواجهها بمسؤولية، واحسب ان الأنظار في الحوار الوطني في اطار متابعة الهموم الكبرى والصغرى معلقة على تحديد الطريق الواجب سلوكه بما يؤمن لنا إصلاحا إداريا ملتزما بقواعد التغيير والتطوير والشفافية والخضوع للمساءلة، إصلاحا يحّسن الأداء ويرفع الإنتاجية، ويراقب الإنفاق ويضبط الهدر ويحارب الفساد وكل ذلك لن يتأتى في ظل وضع اداري ضعيف قسم كبير لا يستهان به من التعيينات فيه تتم على اسس تقليدية من محسوبية، وقرابة واعتبار طائفي او سياسي مما يفترض ان يقاومه ويضع حدا له اي اصلاح اداري حقيقي.
 
من يمعن في الكثير من المرئيات التي طرحت في الحوار والمناقشات التي جرت سيجد بان موضوع الادارة وكم الملاحظات والمآخذ عليها تشكل قاسما مشتركا فيما أثير بالحوار، وهذا يعني ضمن ما يعنيه ان الاصلاح الاداري يجب ان يتصدر اولويات المرحلة القريبة المقبلة، مع ملاحظة جديرة بالتأكيد عليها وهي ان الاصلاح الاداري لا ينبغي ان يفهم او يحصر في تبسيط الاجراءات، وتسريع وتيرة انجاز الخدمات والتركيز على ما بات يعرف بالحكومة الالكترونية، ولا في المشاريع والبرامج المعدة للتأهيل والتطوير الاداري، بل قبل ذلك باقتلاع ثقافة سائدة وبناء ثقافة بديلة تعتمد على الكفاءة، وعلى زرع افكار الانجاز والانتاجية والتكيف والمبادرة ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب، ادارة حقيقية تخلصنا من عوامل الترهل والجمود وانخفاض الكفاءة والفساد.. ادارة يتحول فيها مفهوم السلطة الى مفهوم الخدمة في علاقاتها بالجمهور من مواطنين ومقيمين، ادارة يتحول فيها نمط الموازنة الحكومية الى موازنة برامج وأداء وأهداف قابلة للانجاز والقياس. وتتعامل مع المواطن باهتمام واحترام. ادارة عامة فاعلة تستلهم الديمقراطية الصحيحة، ويصبح مبدأ الشفافية والمساءلة شرطا مركزيا فيها. وهذا يعني اننا بحاجة الى عقلية جديدة.. ومعايير وقيم جديدة، ونوعية جديدة من القيادات في مختلف مواقع المسؤولية تماثل في كفاءتها ونزاهتها واخلاصها النوعية التي قادت عدة مجتمعات في آسيا من طور التخلف الى مرحلة متقدمة من الانتاجية والتنافسية والنشاط والنجاح، وجعلت الشفافية والمساءلة محورين اساسيين في مسألة الحكم الصالح والادارة الرشيدة. واصبحت مجتمعات كفاءة بدلا من مجتمعات مكافأة، فهل نحن جادون في الاصلاح الاداري الذي ينقلنا من حال الى حال؟! هذا هو السؤال الذي لا نملك الإجابة عليه حتى الآن على الأقل، ولكن يبقى الأمل بان يكون هذا الإصلاح احد ثمار ومخرجات حوارنا الوطني.
 
الأيام 2 أغسطس 2011