المنشور

واللبيب من الإشارة يفهم


 
“ . . ليس لدي مصلحة في إحراجك، وإنما أنا أريد أن أساعدك على احتفاظك بإرثك من خلال سماحك بانطلاق عهد جديد، أنا أحترم من هم أكبر مني سناً، ولكن إذا كانت الأمور قد سارت في اتجاه معين في السابق، فهذا لا يعني أن العمل بها سوف يسير بنفس الطريقة في المستقبل، عليك أن تقتنص هذه الفرصة التاريخية وأن تترك لنفسك ذكرى طيبة” .
 
كانت هذه هي بالحرف الكلمات التي قالها الرئيس الأمريكي باراك أوباما على الهاتف للرئيس المصري السابق محمد حسني مبارك يوم الحادي عشر من فبراير/شباط الماضي، وقد حرص الرئيس أوباما على ترديدها ثلاث مرات على مسامع الرئيس المصري الذي رد بالقول: “سوف أفكر في ذلك، وأرد عليك خلال أسبوع”، فأجابه أوباما “بل إنني أتطلع إلى ردك يوم غد”، فقال: مبارك “ربما خلال عطلة نهاية الأسبوع”، فكان رد الرئيس حاسماً هنا “بل سنتحدث خلال 24 ساعة” (مجلة تايم الأمريكية، المجلد 177 العدد ،20 تاريخ الصدور 20 مايو/أيار 2011) .
 
مثيرة هي بالتأكيد هذه المكالمة الهاتفية التي يفترض أنها تمت بين رئيسي دولتين مستقلتين تستمدان سيادتهما وشرعيتهما من عضويتهما في الأمم المتحدة، ناهيك عما يربطهما من علاقات خاصة جداً وصلت بموجبها مصر إلى مرتبة الحليف الذي تخصه واشنطن بمساعدات وتسهيلات مالية واقتصادية وإمدادات عسكرية يقع بعضها تحت تصنيف المنح التي لا ترد .
 
فإذا بها وكأنها محادثة بين رئيس دولة وبين أحد أركان إدارته .
 
صحيح أن بعض الإخلال لمعطيات ومعايير معادلة المقارنة، ربما اكتنف المقارنة المعقودة ها هنا بين رئيسي الدولتين . فنحن من جهة أمام رئيس الدولة العظمى الأولى في العالم، وفي الجهة الأخرى مع رئيس دولة نامية لها ثقلها في محيطها الجغرافي وحسب .
 
ولكن العلاقات الدولية بين الأمم كانت قد أنشئت وترسخت عبر العصور على أصول وقواعد بروتوكولية مرجعية وسارية المفعول على الجميع، أو هكذا يفترض أن تكون على الأقل . نعم في النظر، إنما في التطبيق تحل مواقع الثقل وموازين القوى الاقتصادية والعسكرية محل تلك الأصول والقواعد المرجعية . وهذا ما درجت عليه الممارسة السياسية في فضاء العلاقات الدولية الواسع .
 
ومع ذلك لم يكن أحد ليتصور أن تكون معايير موازين القوة  باعتبارها مرشداً للعمل والممارسة السياسية والدبلوماسية للدول التي شاءت الصدفة التاريخية والاستثمار والاستغلال الفطين لمخرجات العلوم والتقنية، أن تضعها في طليعة الأمم المتقدمة في كافة مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية  أن تكون بهذه الفظاظة والغلظة، في وقت ساد فيه الاعتقاد أن لغة التهديد والوعيد التي ميزت العلاقات الدولية (بين الكبار والصغار) في القرنين التاسع عشر والعشرين، قد أضحت في القرن الحادي والعشرين جزءاً من ماضي هذه العلاقات .
 
ومن الواضح أن التورطات والمآزق العسكرية الأمريكية في العراق وأفغانستان وبكل أثقالها الاقتصادية والسياسية الباهظة، فضلاً عن أزمات عجوزاتها المالية (الموازنة والدين العام)، ما كانت لتمنع إدارة الرئيس أوباما عن مواصلة استخدام مفردات ذات الخطاب المعبر عن الدور الزعامي العالمي للولايات المتحدة، بما يصل إلى حد الإملاءات القطعية والطلب من رئيس دولة أخرى  ولاحظ على الهاتف  بمغادرة كرسيه الرئاسي .
 
ولعلي أحسب، زعماً، أن القارئ النبيه، وكل المشتغلين والمنشغلين بالشأن السياسي، خصوصاً منه المتصل بعمران المجتمعات وإعادة بنائها، مدعوون للتفكر بعمق والتأمل في دلالات ومغازي هذا “الديالوج”  أو بالأحرى المونولوج لأنه حديث توجيهي من طرف واحد هو الرئيس الأمريكي  لاستخلاص الدروس والعبر، لا سيما تلك المتعلقة بذلكم المستوى من تآكل ما كان يسمى بالسيادات الوطنية للدول وهيبتها، لا سيما الدول النامية المستقلة، تلك السيادات التي كان يُظن أنها مُسَيجة بالشرعيات الدولية على اختلاف مستوياتها .
 
وتأسيساً على ذلك، لربما كانت الخلاصة الأكثر إلحاحاً وأهمية من دلالات ومغازي تلكم العلاقة “الملتبسة”، أو غير المتكافئة إن شئتم، على ما أبانته المحادثة الهاتفية إياها، بين قادة العالم الأول والعالم الثالث، تكمن في أن السيادات الوطنية تكون مكشوفة، حتى من أسيجتها الشرعية الدولية، إلا في حال استطاعت أن “تعيد تأمين نفسها” بواسطة “بوليصة التأمين” الشعبية، أي الاستناد إلى حصانة الجبهة الداخلية ومنعتها، وذلك من خلال التعاقد الاجتماعي مع مكونها الحي، وهو هنا الشعب بكل فئاته وانتماءاته المختلفة . فلعل مثل هذا العقد الاجتماعي يكون ضمانة ضد الانكشافات المحتملة أمام أخطار “الخارج المتقلب” .
 
حرر 1 يوليو 2011