المنشور

رؤى للحوار… شرعية النظام وشرعية المشاركة – الكاتب محمود القصاب


ليس بمقدور أحد أن يجادل بأن البحرين عاشت، ومازالت تعيش، منعطفاً مهماً وخطيراً بعد الأحداث التي شهدتها البلاد طوال الأشهر القليلة الماضية والتي كانت لها تداعيات سياسية واجتماعية واقتصادية، ستبقى الدولة والمجتمع والمواطنون جميعاً يدفعون تكاليفها لفترة من الزمن لا يعلم سوى الله كم ستدوم.
 
ولعل أخطر تلك التداعيات هذا الانشطار الاجتماعي والطائفي الحاصل اليوم، وما يولده من أفعال وردود أفعال متقابلة ستفضي حتماً في حال استمرارها إلى نتائج سلبية وإلى نشوء واقع اجتماعي غير متجانس يصعب تجاوزه بالنوايا الحسنة فقط.
 
وهذه النوايا هي التي تدفع اليوم بعض الأطراف والجهات الصادقة في الدولة والمجتمع للقيام بمحاولات وبذل الجهود لرأب الصدع، إلا أن البلاد مازالت تعيش أجواء يغلب عليها انعدام الثقة بين مكونات المجتمع وبين الدولة والقوى السياسية بفعل تراكم الغضب والاحباطات التي مازالت تفعل فعلها في النفوس.
 
ومع كل الآلام التي تعتصر القلوب، وعلى رغم النظرة السوداوية التي يصر البعض على أشاعتها وترسيخها، ومع الإقرار بوجود بعض الصعاب الحقيقية التي تحول دون تلك الجهود الصادقة لانتشال البلد من «عتمته» عبر إضاءة شمعة هنا وهناك، نقول على رغم كل ذلك، يجب علينا ألا نستسلم لهذا الواقع المؤلم والبغيض، بل على العكس نحن مدعوون جميعاً إلى اجتراح الحلول وشحذ العقول والضمائر من أجل الإمساك بأية نقطة ضوء نراها وسط هذه «العتمة»، فقدر هذا الوطن أن يكون موحداً، وقدر هذا الشعب أن يبقى متآخياً متصالحاً مهما بلغت الخصومة وانعدام الثقة بين مكوناته الاجتماعية والسياسية.
 
بسبب هذا «اليقين» ومن أجله نحن اليوم نرحب ونتمسك بدعوة الحوار التي دعا إليها جلالة الملك، لأنها تقدم الأمل من جديد وتفتح أمامنا نافذة على المستقبل، بعد أن سيطر اليأس والإحباط، وبعد أن جرى تغليب الخيار الأمني، وبعد أن تغلب منطق القوة والعنف وتراجع منطق العقل والعدل، والمهم اليوم كيف نحسن استثمار هذه الفرصة وكيف تثبت كل الأطراف (الدولة والقوى السياسية) مدى جديتها وحقيقة توجيهاتها للخروج من أزمتنا الراهنة.
 
ومن أجل تقريب المسافة بيننا وبين هدف الحوار والاقتراب من الحلول الناجحة والمطلوبة، نشير في سياق هذه المقالة إلى عدد من الرؤى التي نعتقد بأهميتها وضرورتها، دون أن نجزم بتفردها أو حصولها على إجماع كل القوى والمكونات السياسية في البلاد. وقبل الولوج في تفاصيل هذه الرؤى، نرى أنه بات من الضروري بل من الواجب الوطني لجم كل أصوات شياطين الطائفية وإسكات تخرصات جلاوزة التحريض والكراهية، مهما كانت الجهة التي ينتمون إليها أو العناوين السياسية التي يمثلونها وإرجاعهم إلى مخابئهم لأنهم وحدهم اليوم مصدر كل هذه السموم التي تلوث سماءنا وأرضنا، وهم وحدهم مصدر التأزيم الذي يعمل عل إفساد طيبة وسماحة وعفوية شعب البحرين الذي ظل على امتداد التاريخ يرفض كل دعوات التقسيم والتمزق الطائفي والمذهبي، ولم يكن يعرف مثل هذا الفجور والتوحش في الخصومات والعداوات.
 
نقول ذلك من باب أن دعاة الفتنة والتحريض هم في واقع الأمر نتاج للأزمة التي عصفت بالبلاد، بل هم أحد أسباب استمرارها وتعمقها، أي أن هؤلاء لا يمكن أن يكونوا جزءاً من الحل، وأن المرحلة تتطلب أجواء من التسامح وإشاعة روح المحبة والتآخي، والابتعاد عن كل ما ينكأ الجروح، وهذه قيم يصعب كما يبدو على مثل هؤلاء التعاطي معها أو التجاوب مع شروطها. لذلك ليس أمامهم سوى الانكفاء والتواري عن الأنظار وإفساح المجال لأصحاب الضمائر النقية والعقول السوية للقيام بدورها وواجبها الوطني، وفق ما تقتضيه المصلحة الوطنية والعمل على لم الشمل وتوحيد الصف الوطني، والشروع في تهيئة الأجواء التي تساعد على الاقتراب من آمال شعبنا وتطلعاته المشروعة في الاستقرار والعيش الكريم، وبناء الديمقراطية و العدالة والتقدم، انطلاقاً من قاعدة التوافق الوطني التي تمثل أحد أهم القواعد أو المرتكزات لإنجاح عملية الحوار والوصول به إلى غاياته النهائية، بالإضافة إلى قاعدة أخرى لا تقل أهمية وهي إتاحة الفرصة، وتوفير الضمان والحرية لكل التوجهات الوطنية والمكونات السياسية والاجتماعية للتعبير عن أفكارها وتصوراتها وتقديم مقترحاتها في شأن مستقبل الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في البلاد، سواء قبل أو أثناء الحوار دون أي حجر أو فرض قيود معينة على أية أفكار أو تصورات يراها البعض أنها تشكل جزءاً من سقف الحوار الذي أكد أكثر من مسئول في الدولة على مرونته (السقف) وقدرته على استيعاب العديد من المقترحات والتصورات طالما هي في إطار الشرعية الدستورية والقانونية.
 
بالعودة إلى الرؤى التي نوهنا بها، والتي نعتقد بضرورة استقرارها في وعي وسلوك كل «المتحاورين» نظراً لأهميتها ودورها في صيرورة التوافق الوطني والذي من دونه لا يمكن الحديث عن أي نجاح للحوار المنتظر، وأهم هذه الرؤى تتلخص فيما يأتي:
 
الرؤية الأولى:
أن تكون قاعدة انطلاق الحوار، قاعدة وطنية وليست دينية أو مذهبية بمعنى أن الأطراف المشاركة في هذا الحوار يجب أن تكون وفقاً لانتماءاتها وبرامجها السياسية، وليس وفقاً لانتماءاتها الدينية أو المذهبية، طالما أن الموضوعات والقضايا التي ستخضع للبحث والنقاش، هي موضوعات تتعلق بمفاهيم ورؤى سياسية وتشريعية قابلة للتبديل والتعديل، وعلى الذين ينادون بالدولة المدنية أن يقرنوا أقوالهم بالأفعال ويكونوا أول الداعمين لهذه الرؤية الوطنية، وإلا فإن النتائج ستكون من جنس المقدمات، أي أننا سنجد أنفسنا في نهاية المطاف نتحدث عما هي «حصة» كل طائفة وكل جماعة وهذا المبدأ أو الخيار (المحاصصة الطائفية) إذا ما تم اعتماده أو مجرد التلويح به نكون قد ضربنا «الدولة المدنية» في مقتل، ونكون قد ارتكبنا جريمة بحق بلدنا لا يمكن أن تغتفر، وهي وضع البحرين على أبواب الجحيم الذي سيكون مصدر كل الحرائق في البلاد، التي ستحرق الأخضر واليابس.
 
لذلك نحن نحذر من هذا التوجه الطائفي وندعو إلى رفض كل الدعوات التي تروج أو تطالب باعتماد «الرؤية المذهبية» سواء في صوغ أسس الحوار أو في شكل وطبيعة الأطراف المشاركة فيه (سنة وشيعة) لأن هذه النظرة الفئوية القاصرة والضارة سوف لن تحل أزمة البحرين كما يدعي البعض بل على العكس من ذلك ستدخلنا جميعاً في نفق مظلم وطويل من الأزمات والصراعات الطائفية التي لا نهاية لها.
 
وعليه نقول لكل الذين قد صدعوا رؤوسنا ليلاً نهاراً وحاولوا تخويفنا من تكرار «سيناريو» العراق أو استنساخ تجربة «لبنان أو الصومال» أن يتوقفوا عن الترويج للطروحات الطائفية وأن يكفوا عن استخدام المفاهيم والمصطلحات التي تعمل على تكريس الانتصار للمذهب وللطائفة في وجدان وعقول الناس وانعكاسها بالتالي على ممارساتهم الاجتماعية وإقامة الحواجز المادية والنفسية بينهم وبين شركائهم في الوطن.
 
ولسنا بحاجة إلى شواهد من الواقع كما لسنا بحاجة إلى اللجوء للتحليل أو التنجيم و»ضرب الودع» لمعرفة النتائج الكارثية المتوقعة لمثل هذا التوجه، فنحن اليوم نشهد العامل الإقصائي ونعيش للأسف الكثير من الممارسات والإجراءات التي يتم اتخاذها على – مستوى الدولة والمجتمع – بوحي من هذه النزعة الطائفية المقيتة، ولم تكن دعوات المقاطعة المتبادلة للمتاجر والمحلات، وكذلك الدعوات لإيجاد أسواق مستقلة في بعض مناطق البحرين وفق انتماء سكانها الطائفي، وأخيراً وليس آخراً ما يتم الترويج له من مشاريع التعليم وتقديم الدعم للطلبة بحسب هوياتهم المذهبية، كل هذه الدعوات وغيرها لم تكن سوى نماذج قبيحة وسيئة لما وصلنا إليه من انحدار وسقوط على المستويات الوطنية والأخلاقية والإنسانية.
 
إذاً لا سبيل أمامنا للخروج من هذا المأزق الخانق والخطير الذي يهددنا جميعاً سوى الحلول السياسية الوطنية المتوافق عليها من منظور وطني وليس طائفي، حلول تقوم على بنيات داخلية وآليات دستورية تؤكد إقرارنا وتمسكنا بشرعية النظام السياسي، وتؤكد حقنا في تطوير هذا النظام وفق ميثاق العمل الوطني الذي صوت عليه الشعب وعكس توافق الإرادتين الشعبية والقيادة السياسية في البلاد. ولا معنى لهذا الإقرار سوى مفهوم واحد وهو أن إجراء أية إصلاحات حقيقية ودائمة عبر «عملية الحوار» لا يمكن أن تكون مصدر خطر أو تهديد للنظام، بل على العكس ستقود إلى تقويته واستقراره على المدى الطويل، هذا عدا عن مسألة حاجة كل دولة أو حكومة إلى بلورة إجماع وطني حول سياساتها في الداخل والخارج، والذي يمثل السند الوحيد لها في مواجهة كل التحديات الداخلية والخارجية، ولا يمكن أن يتصور أحد أن تقوم الحكومة (أية حكومة) بضرب هذا الإجماع بيدها.
 
في الجزء الثاني من هذه المقالة نستكمل تفاصيل الرؤى الأخرى..
 
محمود القصاب
صحيفة الوسط البحرينية – 17 يونيو 2011م
 
رؤى للحوار… شرعية النظام وشرعية المشاركة (2 – 2)
 
في الجزء الأول من هذه المقالة أوضحنا أهمية وضرورة أن تكون المشاركة في الحوار قائمة ومبنية على قاعدة وطنية وليس قاعدة دينية أو مذهبية طالما أن القضايا موضوع البحث والحوار هي قضايا سياسية وتشريعية قابلة للتبديل والتعديل، لذلك رفضنا كل الدعوات التي تحاول تسويق الصيغة أو الرؤية الطائفية لعملية الحوار سواء على مستوى الأسس والأهداف أو على مستوى الأطراف المشاركة فيه (سنة + شيعة). وقد أكدنا أهمية مبدأ التوافق الوطني، كونه يمثل قاعدة أساسية ومرتكزاً مهماً لإنجاح الحوار والوصول به إلى نهايته المرجوة، وكذلك نوهنا إلى أهمية الحلول السياسية الوطنية القائمة على «بنيات داخلية» وآليات دستورية مشروعة تؤكد إقرار كل الأطراف بشرعية النظام من جهة، والإقرار بأهمية إجراء إصلاحات حقيقية وشاملة من جهة ثانية. بالإضافة إلى ضرورة أن تعي الدولة حاجتها إلى الإجماع الوطني، الذي يمثل السند الوحيد في مواجهة كل التحديات الداخلية والخارجية واستبعدنا في ظل هذه الحقيقة أن تقوم الحكومة (أية حكومة) بضرب الإجماع الوطني بيدها.
ونريد، في هذا الجزء الثاني والأخير من هذه المقالة، تناول بقية الرؤى التي نرى ضرورة استحضارها في سياق الاستعدادات الجارية للدخول في عملية الحوار في الشهر القادم، كما جاء في دعوة جلالة الملك.


الرؤية الثانية:
أن تقوم جميع القوى والأطراف المعنية بالحوار الوطني بدراسة متأنية وموضوعية لفكرة أو مقترح وجود «هيئة» أو لجنة تمثل فيها كل الأطراف، تأخذ على عاتقها مهمة وضع أسس ومحاور الحوار وتحديد آليات عمله وبرنامجه الزمني، قبل الذهاب إلى مؤتمر الحوار. وفي تقديرنا أن وجود ولي العهد سمو الأمير سلمان بن حمد آل خليفة على رأس هذه الهيئة، إن من جهة القيادة أو من جهة الإشراف، سيكون عاملاً مساعداً، بل وضامناً لنجاح أعمال هذه الهيئة، كون سموه هو المعني والمكلف من جلالة الملك بهذه المهمة، كما أن سموه يمسك اليوم هذا الملف على المستوى الدولي للحصول على الدعم اللازم له. كذلك نعتقد بأنه ليس هناك أي تعارض أو تناقض بين القبول بالجلوس على طاولة الحوار، والدعوة إلى جعل مبادرة سمو ولي العهد ذات النقاط السبع المعروفة والمعلنة، منطلقاً في صياغة أسس ومحاور الحوار الرئيسية التي ستخضع بدورها للنقاش والتفاوض قبل التوافق عليها في المؤتمر الوطني العام للحوار الذي ستدعو إليه السلطتان التشريعية والتنفيذية، كما طالب به جلالة الملك عندما دعا إلى الدخول في عملية الحوار ليكون «استكمالاً» لمبادرة ولي العهد.
 
لذلك، ندعو جميع الأطراف إلى التعامل مع هذا التصور (المقترح) من منطلق المصلحة الوطنية، وعدم التسرع في رفضه أو اتخاذ موقف سلبي ومتشنج منه لمجرد أنه صادر عن هذا الطرف أو ذاك، فالعمل السياسي لا يجب إخضاعه لمثل هذه العواطف والانفعالات التي تحجب الرؤية الصحيحة عن المصلحة الوطنية، وتحول دون اتخاذ الموقف المناسب، فلابد أن تدرك جميع الأطراف أن أية مكاسب سياسية واجتماعية أو اقتصادية يمكن أن يسفر عنها الحوار، هي في نهاية المطاف مكاسب لكل المواطنين، ولن تكون حكراً على فئة دون أخرى، وبالتالي ليس هناك من معيار لجدية هذا الحوار وضمان نجاحه سوى الاتفاق على الخروج بإنجازات وخطوات جادة وملموسة على مستوى التشريعات الدستورية والسياسية وعلى مستوى زيادة هامش الديمقراطية والحرية على كل المستويات في الدولة. فليس لأحد أن يتصور أو يفكر في قبول نتائج يمكن أن تعود بنا إلى نقطة الصفر، أو «تقطم» من رصيد ما تحقق خلال العقد الماضي، هذا عوضاً عن البناء عليه وتطويره. نقول ذلك ونحن نعرف ونلمس بعض الهواجس وعوامل الخوف التي تتلاعب بعقول البعض، ونحن مع ضرورة أن يشعر الجميع بالاطمئنان واستبعاد أية محاولة «للاستحواذ» على تلك المكاسب وإقصاء الآخر منها، لذلك على الجميع في هذه المرحلة الإقرار بأنه لا مناص من «التوافق الوطني» واعتماد خيار «الديمقراطية التوافقية» نظراً لعدم إمكانية تحقيق مبدأ «الغالبية الديمقراطية» لأسباب داخلية وإقليمية ودولية، وان اللجوء إلى الديمقراطية التوافقية (رغم بعض سلبياتها) هي في الواقع تمثل حالة من إدارة الصراع الداخلي بين المكونات السياسية والمذهبية في البلاد وأنها تمثل أفضل البدائل والخيارات المتاحة في هذه المرحلة نظراً لسيادة حالة عدم الثقة وتفاقم حدة الاصطفافات الطائفية. وعلينا أن نقر، بكل أسف، أن الطائفيين قد نجحوا في تخويف وإرعاب الشعب، أو مكون أساس منه، تحت ذريعة تكرار «سيناريو العراق» واحتمالات بروز ظاهرة الفرز على الهوية، وهو الأمر الذي أدى إلى الانقسام الخطير الذي شهده الشارع البحريني، وساهم بالتالي هذا الوضع في خلط الأوراق، وتهيئة الظروف المناسبة للالتفاف على المطالب الحقيقية والمشروعة للشعب البحريني.
 
من هنا نحن اليوم نوجه حديثنا بشكل خاص إلى الأطراف التي «تتغذى» من هذا التصور، و «تتبنى» خطاباً حدياً، سمته الأساسية «التخوين» و «الإقصاء» للآخر والذي جعلت منه محوراً لتفكيرها ومرتكزاً لتحركها تحت ضغط الشارع الذي عبأته وشحنته بصورة خاطئة… إن هذه الأطراف مطالبة اليوم أكثر من غيرها بسرعة مغادرة هذا التفكير أو التوجه الضار، لأنه قائم بالأساس على عقلية أو معادلة (منتصر ومهزوم) واستمرار مثل هذا التوجه وسحبه على أجواء الحوار يلقي بظلال من الشك في النوايا، وفي سقف الإصلاحات والمكاسب السياسية والدستورية المتوقعة والتي يمكن التوافق عليها في «مؤتمر الحوار» وخاصة مع استمرار أجواء الشحن الطائفي وتنامي لغة التحريض والكراهية، وتزايد دعوات الانتقام الموجهة ضد بعض مكونات المجتمع وضد بعض القوى السياسية. ولابد للجميع أن يدرك أنه ليس هناك من سبيل أمام الديمقراطية، وأنه لا معنى أو أي مغزى للحديث عن «الدولة المدنية» طالما بقيت مثل هذه الأجواء مسيطرة على سلوكنا وتفكيرنا (ونحن هنا لا نستثني أحدًا) وطالما ظلت بعض الهواجس والظنون المذهبية تتلبسنا.
 
فليس هناك أية فرصة لنجاح دعوات الحوار إذا كانت «النخب» أو «القوى» المتصدية للحوار «متلبسة» بالنعرات الطائفية، ومتوشحة بالرايات المذهبية، وزاعقة بأصوات التحريض والكراهية!


الرؤية الثالثة:
على الجميع الإقرار والإعلان بأن البحرين جزء من منظومة مجلس التعاون لدول الخليج العربي، التي ترتبط شعوبها بأواصر الدم والنسب ووشائج القربى، بالإضافة إلى حقيقة عروبة البحرين وانتمائها إلى محيطها القومي العربي، وان شعب البحرين جزء لا يتجزأ من الأمة العربية، وهذا مبدأ ليس خاضعاً للنقاش أو المساومة وعلينا كذلك الإقرار والاعتراف بأن أوضاع البحرين لا تماثل أوضاع مصر وتونس واليمن وليبيا، (في التفاصيل) وأن لكل بلد خصوصياته، ولكن طالما أقررنا بأننا جزء من الوطن العربي الكبير، فالمؤكد أن البحرين ليست محصنة ضد التأثر أو التأثير بموجات الإصلاح التي تجتاح المنطقة العربية، بل إننا لا نتجاوز الحقيقة، إذا قلنا إن البحرين قابلة للتأثر السريع بتداعيات الموجة أكثر من غيرها من دول المنطقة بأسباب ليست خافية على أحد، لذلك ليس من العدل أو الإنصاف وصم كل الحراك الشعبي، وكل القوى المشاركة فيه بالطائفية وربطها بأجندات خارجية، مع إدراكنا التام بأن قوى إقليمية ودولية مثل إيران والولايات المتحدة الأميركية وغيرها سوف تلجأ حتماً إلى استغلال الأوضاع ومحاولة توظيفها لخدمة أهدافها ومصالحها في المنطقة، كما يجب أن نقر وندرك أيضاً بأن هناك بعض القوى والأطراف الداخلية لها أجندتها الطائفية، وهي عادة تلجأ إلى استخدام «المذهبية» كأداة للتعبئة والإثارة والتحشيد.
 
وعلى صلة بهذه النقطة، يجب التأكيد على أمن وسلامة البحرين ضد أي تهديدات خارجية وأية تدخلات في شئونها الداخلية، وهنا المسئولية تقع على جميع المواطنين وكل القوى والمنظمات السياسية والمجتمعية، وواجبها الوطني يحتم عليها المحافظة على أمن واستقرار البلد، والمحافظة على الوحدة الوطنية ومنع انكشاف البلاد أمنياً أمام التحديات والمخاطر الأمنية الخارجية أو تحولها إلى ساحة صراع إقليمي ومذهبي سيقود حتماً إلى إشعال المنطقة برمتها.
 


الرؤية الرابعة:
التأكيد على سلمية كل التحركات المطلبية، ورفض اللجوء إلى العنف مهما كان شكله أو حجمه، وضرورة إبعاد هذه التحركات عن الخطابات «المتشددة» وعن الشعارات «المتطرفة» كما يجب ألا تكون هناك أية فعاليات خارج القانون وغير منضبطة، نقول ذلك من تجربة الأحداث خلال الأشهر الماضية، فقد كانت هناك بعض «الشعارات» المنفلتة، وكانت مسئولة بشكل أو بآخر عن أجواء التوتر والاستعداء الطائفي التي سادت البلاد في تلك الفترة دون أن نغفل عن حقيقة مهمة ذات صلة بالموضوع وهي أن الدستور والقانون قد أجازا تنظيم المسيرات والتجمعات السلمية وهذه حقوق ليس لأحد أن ينتقص منها أو يصادرها تحت أي ظرف من الظروف.
 
في موازاة ذلك، مطلوب العمل الفوري لوقف حالات الانتقام ودعوات الثأر وتصفية الحسابات التي باتت تسيطر على عقول ونفوس البعض، وهنا لابد من التطرق إلى دور الإعلام، بل وكل المفاصل الإعلامية في الدولة من «صحافة» و «تلفزيون» و «مواقع إلكترونية» ودورها في هذه المرحلة في أن تكون أدوات للإعلام الحر الذي يتعامل مع جميع المواطنين بحيادية ومهنية، وأن يساهم في تخفيف الاحتقان الطائفي، ووقف كل حملات التحشيد والتحريض.
 
كما أن المرحلة تتطلب توجه الجميع بشكل عاقل ومسئول من أجل استعادة اللحمة الوطنية، ووقف النزيف المتواصل والعمل على تضميد الجراح، لأن البديل يعني استمرار الشرخ الطائفي الذي يهدد وحدة البلاد ويشرع الأبواب أمام التدخلات الخارجية.
ماذا يعني كل هذا الذي قلناه بخصوص تلك الرؤى، في تلخيص مكثف وما الذي تتطلبه من خطوات والتزامات من قبل الأطراف المعنية بالحوار، وبمستقبل العمل السياسي برمته في البلاد؟ باختصار، هذه الرؤى تكشف حاجة البلد إلى استراتيجية وطنية شاملة تقوم على ثلاثة محاور أساسية وتعتمد لنجاحها بالإضافة إلى توفر الإرادة الصادقة للمواطنين ولكل القوى السياسية، دعم جلالة الملك لها, وسيشكل ذلك دون أدنى شك عاملاً أساسياً للنجاح كون جلالته صمام أمان هذا البلد ووحدة شعبه.
وأول هذه المحاور يختص بإقرار مبدأ الدولة المدنية الحديثة الديمقراطية، القائمة على المواطنة والعدالة والمساواة بين جميع المواطنين. وثاني هذه المحاور التمسك ودعم خيار الأمن والاستقرار لكل المواطنين، ولكل مدن وقرى البحرين، مع التمسك بكل قيم حقوق الإنسان ومبدأ العدالة والإنصاف مع الجميع، فالتمسك بمطلب الأمن والقانون لا يعني السماح بأية تجاوزات على حرمات الناس أو التعدي على أرواحهم وممتلكاتهم، ومعاقبتهم بصورة جماعية.
 
في الوقت ذاته، مطلوب إقرار واعتراف الجميع بأن الحرية والديمقراطية والمساواة لا تعني السماح أو القبول بتلك المحاولات الرامية إلى ضرب الشرعية الدستورية والخروج على القانون عبر اللجوء إلى العنف والفوضى.
 
وثالث المحاور، ضرورة التوجه لتفعيل دور القوى الوطنية والديمقراطية، وجميع قوى ومؤسسات المجتمع الوطني والأهلي.
 
كذلك فسح المجال لكل الشخصيات الوطنية وعقلاء هذا البلد وهم – لله الحمد – ليسوا قلة، وليسوا حكراً على فئة دون أخرى! للعمل معاً من أجل إنقاد البحرين وإخراجها من أزمتها الراهنة واسترجاع عافيتها، بعد أن جرى خطفها وجعلها تدفع أثماناً باهظة بسبب حماقات بعض المتشددين، والتي مازالت للأسف تدفع حتى يومنا هذا تكاليف مضاعفة بسبب الغرائز المنفلتة لبعض الموتورين والمنتفعين.
 
أخيراً نقول لبعض الباحثين عن «الأدوار» على حساب عذابات الناس، أن يكفوا عن النفخ في النار وإشعال حرائق الثأر والانتقام، ويجب أن يعلموا أن استمرارهم في لعب هذا الدور «المشين» و «العدائي» سيأخذ البلاد إلى هاوية سحيقة ومدمرة، وسوف يكونوا هم وحدهم من يتحمل المسئولية أمام الله وأمام الناس والتاريخ، وهم من يتحمل المسئولية عما حملته وسوف تحمله نفوس الناس من أحقاد وكراهية تجاه بعضهم البعض.
 
وليكن قول المولى عز وجل – وهو قول الحق – هو الموجه لسلوكنا وخطابنا في هذه الفترة العصيبة. «ولا تستوي الحسنة ولا السيئة، أدفع بالتي هي أحسن، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم» (فصلت: 34) صدق الله العظيم
 
محمود القصاب
صحيفة الوسط البحرينية – العدد 3206 – السبت 18 يونيو 2011م الموافق 16 رجب 1432هـ