المنشور

الهزات الارتدادية للثورات الاجتماعية


في تونس التي أطاحت فيها الثورة في يناير/كانون الثاني الماضي نظام الرئيس السابق زين العابدين بن علي الذي أمضى في الحكم 23 عاماً، ثار جدل كبير ومتصاعد سرعان ما اتخذ تجسيداته الاحتجاجية، العنيفة في الغالب، في الشارع بين الشرطة والمتظاهرين، وذلك إثر تصريحات لوزير الداخلية السابق بأن انقلاباً عسكرياً سيحدث لو وصل حزب النهضة الإسلامي الذي يتزعمه راشد الغنوشي إلى السلطة .
 
وفي مصر التي نسجت على المنوال التونسي نفسه، حيث أطاحت الثورة المصرية في الشهر نفسه نظام الرئيس حسني مبارك الذي حكم مصر طوال 30 عاماً متصلة، واحتفل المصريون ومعهم العالم أجمع بما حققوه من نيل الحرية في إعادة صوغ سياسات بلادهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية على صعيديها المحلي والدولي – في مصر أيضاً يجري الحديث عن حصاد ما بعد المئة يوم الأولى من انتصار الثورة والمال الذي انتهت إليه البلاد في ظل النظام الجديد الذي قام على أنقاض النظام السابق، ويتركز الجدل تحديداً على الجزء المرّ من هذا الحصاد، وهو هنا الصعود المفاجئ والمخيف للأصوليات الدينية وتصدرها في أكثر من حالة صراعية مجتمعية (دينية وليس اجتماعية) في الآونة الأخيرة، للمشهد السياسي المصري .
 
علماً أن التاريخ الاقتصادي والسياسي المصري والطبيعة السهلية الزراعية للبلاد المصرية التي طبعت نفسها على قسمات الاقتصاد الطبيعي ثم الزراعي ومن بعده التصنيعي للدولة المصرية الحديثة ولعلاقات الإنتاج التي حكمت وتحكم مكونات مجتمعها الضارب بحضارته الإنسانية في عمق التاريخ علماً أن هذا التاريخ المديد والغني بمحتواه الإنساني، لم يكن ليعرف مثل هذا الغلو والتشدد الغريب كلياً عن التربة المصرية .
 
فلقد افتعل أولئك المتطرفون الجدد صدامات بالغة الخطورة مع المصريين الأقباط في قلب القاهرة نفسها تم احتواؤها بصعوبة بالغة، وهم الآن في تحفز دائم لاختلاق صدامات مجتمعية جديدة مستفيدين من حالة السيولة السياسية التي تمر بها مصر في مرحلتها الانتقالية الحالية .
 
لا شك في أن مخاض عبور المرحلة الانتقالية بالنسبة إلى تغيير جذري في بلد عربي مركزي بحجم مصر، هو مخاض عسير ومعقد . لقد استغرقت فترة  الانتقال من الفوضى التي شاعت بعد قيام الثورة الفرنسية في عام 1789 والتي عمت معظم مناحي الحياة الفرنسية، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، إلى الاستقرار والتعافي والعودة للحياة الطبيعية – عشر سنوات (1789 – 1799) .
 
بعد السكرة تأتي الفكرة كما تقول الحكمة . فالناس وهم في غمرة حماسهم واندفاعهم الثوري لا يدركون، بل يأبهون “باليوم التالي”، ولأنهم من فرط نشوتهم وسعادتهم الغامرة بما نجحوا في تحقيقه، في مصر كما في تونس، لم ولن يكونوا، بهذا الحال، مهيئين لتلقي واستيعاب صدمة الواقع الجديد المتخلق في زحمة التداعيات الدرامية للحدث الكبير، ما أن تنجلي الرؤية وتتضح معالمها الصادمة والمفزعة والمقلقة إلى أبعد الحدود . ذلك أن النظام الذي كانت تسير عليه البلاد (المصرية والتونسية) قد انفرط عقده، والنظام الجديد مازال طور التشكيل ولم يتم بعد تجميع وتوفيق وتناغم أجزائه في بوتقة واحدة، ناهيك عن أن هذا “النظام” لا يعمل الآن بكامل طاقته نتيجة للفوضى التي نشبت فور وبُعيد سقوط النظام القديم . وإحدى علائم تلك الفوضى هي الخروج العلني والفوضوي للمتطرفين الاقصائيين بصورة أثارت الذعر والمخاوف والتوجسات من خطورة منحى الخطاب التحريضي الطائفي وانعكاساته المرجحة على النسيج الوطني والتماسك المجتمعي واستقراره الذي يشكل عماد أي حياة طبيعية منتظمة لأي مجتمع حضري يروم الانتظام في الدورة الحياتية التنموية المستدامة للمجتمع البشري .
 
هذا الصعود الصارم والمتجاسر للجماعات المتطرفة وغيره من التمظهرات الفوضوية استدعت قلقاً وردات فعل سلبية تجاهها وصلت حد المطالبة بالحجر عليها . وهذه ليست بالتأكيد المقاربة التي تليق بأي مشروع إصلاحي أو نهضوي . فهذه الجماعات استفادت، كبقية المكونات السياسية والاجتماعية والثقافية، من ارتخاء القبضة الأمنية ومناخ الحرية المنبسط، فراحت تعبر عن ذاتها على طريقتها التي وإن كانت ضد مشروع التغيير النهضوي، إلا أن التعامل معها بعقلية الحصار والحظر سيغذي منابعها .
 
وبهذه المعنى فإن التحدي الذي يطرح نفسه اليوم على شعوب البلدان العربية يتمثل في كيفية نهوض النخب فيها بدورها الإيجابي والحصيف لعبور المرحلة الانتقالية بسلام .
 
11 يونيو 2011