المنشور

السياسة الخارجية المصرية بعد الثورة


كثيرة كانت مواطن الضعف والتهالك التي اعترت لثلاثين عاماً ونيف الأداء المصري العام الشامل لكل مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية المصرية، والناتج بالضرورة من إدارة كلية بائسة ركنت واستكانت للمصادر الريعية (دخل قناة السويس، وإيرادات الغاز، وإلى حد ما إيرادات النفط، وإيرادات السياحة، وإيرادات التحويلات المالية للعاملين المصريين في الخارج، وأخيراً وليس آخراً المعونات والمساعدات الخارجية لا سيما المعونات والمساعدات الاقتصادية والعسكرية الأمريكية السنوية) .
 
نعم السياسة الخارجية باعتبارها فضاءً للعلاقات الدولية متاحاً للدول الأعضاء كافة في الأسرة الدولية لتنشط فيه وتسخر إمكاناته وفرصه الهائلة لتعظيم مكاسبها الوطنية، هي بهذا المعنى ليست قطاعاً اقتصادياً كبقية القطاعات التي تسهم في الفائض الاقتصادي بإجمالي القيم المضافة التي تنتجها والتي يمكن قياسها كمياً، ولكن من تناط بهم مهمة ومسؤولية تسلم وحمل حقيبتها يملكون، إذا ما كانوا حاذقين وماهرين في توظيف كل ما تحوزه بلادهم من طاقات وإمكانات وطنية وما تتمتع به من أفضليات في علاقاتها الإقليمية والدولية .
 
وغني عن القول، والحال هذه، أن أي مراقب للسياسة الخارجية المصرية على مدى السنوات الأخيرة، لابد أن يكون قد لاحظ تدهوراً متصلاً لمواقع مصر وتمثيل مصالح مصر في غير موقع من المواقع المتصلة بصميم مصالحها الوطنية لعل أبرزها الخسارة المائية الاستراتيجية الناجمة عن قيام دول منبع نهر النيل بإنشاء اتفاقية جديدة لإعادة اقتسام مياه النيل على حساب دول المصب وتحديداً مصر والسودان، وكذلك الخسارة الجيوسياسية الناتجة من انفصال جنوب السودان عن الوطن السوداني، فضلاً عن خسارة العمق الإفريقي قبالة تزايد الوجود والنفوذ “الإسرائيلي” في عديد بلدان القارة السمراء .
 
طبعاً من غير المنطقي ومن غير المنصف تعليق هذه الخسائر وغيرها على أداة السياسة الخارجية المصرية وحدها، ذلك أن المسألة أوسع نطاقاً من مجرد ضعف وسوء استخدام هذه الأداة الفعالة، المسألة تتصل بلا شك “بالسيستم” كله الذي كان يفترض فيه أن يكون محور حركة الدولة المصرية الدائبة على الصعد المحلية والإقليمية والدولية بحثاً عن كل ما من شأنه صيانة وتعزيز وتعظيم مصالحها .
 
الآن هذا “السيستم” في مصر يخضع لعملية إعادة هيكلة رئيسية في ظل التحولات الكبرى التي تشهدها مصر بعد نجاح ثورتها في إحداث التغيير المأمول في بنية النظام ككل .
 
وفي هذا بالتحديد ما ينهض سبباً للتعويل عليه في إعادة الدينامية لأداة السياسة المصرية الخارجية إلى سابق حراكها الوطني والقومي المعهود . فلقد أرسلت الخارجية المصرية التي أصبح يحمل حقيبتها الآن فريق جديد يقوده نبيل العربي، عدة إشارات تفيد بأن تغيراً جدياً آخذاً في التبلور والحدوث في توجهات السياسة الخارجية المصرية ينطلق من مصالح مصر الوطنية والقومية، وهو نهج يتسم، حتى الآن، بالحيوية والجدية، يشهد على ذلك التوجه المصري السريع نحو السودان الشقيق لإعادة إحياء الروابط المتينة والبالغة الأهمية للبلدين العربيين الشقيقين من خلال الزيارة التي قام بها رئيس الوزراء المصري الجديد عصام شرف للسودان لمدة يومين (27 و28 مارس/ آذار 2011)، تم خلالها التوقيع على 9 اتفاقيات ومذكرات تفاهم وبرامج تنفيذية للتعاون بين البلدين، بما في ذلك اتفاقية إطارية لعودة بعثة جامعة القاهرة فرع الخرطوم وبروتوكول التعاون الفني في مجالات تنمية وإدارة الموارد المائية في إطار استراتيجي يعزز مصالح البلدين الجارين، إضافة إلى بعض الخطوات والمواقف الأخرى من القضية الفلسطينية وغيرها التي تنبئ بوجود نزعة استقلالية وطنية وقومية في السياسة الخارجية المصرية الجديدة يتوقع تبلورها وتمظهرها قريباً على أكثر من صعيد .
 
في هذا السياق، وعلى سبيل المثال لا الحصر، يمكن النظر بإيجابية إلى إثارة وزير الخارجية المصري نبيل العربي في اللقاء الذي جمعه في القاهرة يوم الخميس 24 مارس/آذار الماضي مع المدعي العام للمحكمة الجنائية  الدولية لويس أوكامبو مسألة امتداد اختصاص هذه المحكمة للتحقيق في الجرائم والانتهاكات التي ترتكبها قوات الاحتلال “الإسرائيلي” في الأراضي الفلسطينية المحتلة وتفعيل دور المحكمة في ضمان عدم إفلات مرتكبي هذه الجرائم من العقاب، إضافة إلى تأكيد وزير الخارجية المصري أهمية مواصلة الضغط على “إسرائيل” للانضمام إلى معاهدة منع الانتشار النووي والعمل على إنشاء منطقة خالية من الأسلحة النووية في الشرق  الأوسط .
 
في هذه الظروف العصيبة والعاصفة التي تمر بها بلدان المنطقة العربية، فإن أملاً، مهما كان ضعيفاً، يظل معقوداً على مصر التي وإن كانت ظروف مرحلتها الانتقالية تزحم أجندة أولوياتها، في أن تستعيد الإمساك بزمام المبادرة في المنطقة العربية، بما يخفف من وطأة الاستقطابات المختلفة والحادة التي تطبع الحياة وعلاقات القوى العربية، توطئة لوضع حد لها، ويضع البلدان العربية من جديد على سكة الانشغال التنموي المنطلق من صميم مصالحنا الوطنية والقومية .