المنشور

حراكُ المذاهبِ والثورات


تلوحُ في أفق بعض الثوراتِ العربية المُنجزة أو التي في طريقها للإنجاز أو المُجهَّضة تغلغل بعض المذهبيات السنية المحافظة للسيطرة على مفاتيح هذه الدول خلافاً لأنصافِ دولٍ(علمانية) تحديثية سابقة.

أدتْ سياساتُ الحكومات العربية في ضرب الاتجاهات الديمقراطية أو تحجيمها إلى بقاء السطح الجماهيري من الوعي عرضةً لغسلِ أدمغةٍ مكثفٍ من قبل هذه الجماعات.

وقامت كل سياسات الحكومات على تصعيد رأسماليات حكومية فاسدة ممتدة للمصارف والشركات وغالباً ما سُلم التعليمُ والحياة(الثقافية) لهؤلاء الدينيين المنبثقين من هذه الجماعات ذات الفهم المحافظ للإسلام، الذي يعيد للتداول أسس الحياة القديمة غير الصالحة للاستمرار.

أي أننا أمام حقبة من ولايات الفقيه السنية هذه المرة، وهي التي تبرزُ بسلام وهدوء و(تسامح) وتنمو في أقمطة سريرية غربية، لا تفقهُ من الدين وتركيبِ الواقع المعقد شيئاً عميقاً، وتجاري حركة الشعوب العفوية غير قادرة على بث خطابات تنويرية علمانية في أعماقها، بل تتراقصُ على حبالِ الحركاتِ المذهبية السياسية ودغدغة غرائزها، وتتنامى أنشطتها حسب موارد الثروة ومدى اتساع الأسواق والصفقات التجارية المعقودة.

في مصر تنمو طبقة جديدة من كبار الضباط وقياديي الاخوان لوراثة النظام السابق، وتُبعدُ قوى الشباب، وأبرزتْ معركةُ التصديقِ على التعديلاتِ الدستورية هذا القطب السياسي – الديني الصاعد.

إن جذورَ الضباط الكبار الاجتماعية تأتي من الأسر الكبيرة الغنية ومن القوى التي دعمتْ نظامَ استبداد الضباط الأحرار والتي استفادت من البيروقراطية الحكومية الفاسدة عبر العقود، وهي التي تخاف من التحولات الجذرية وتحرر الفلاحين من التخلف ومن هيمنة الإقطاع الزراعي جذر تخلف مصر الريفي الاجتماعي.

وكان الاخوان دائماً عبر كتبِ مرشديهم وخطاباتهم ورؤاهم مؤيدين هذا الإقطاع الزراعي، وسوف يرغبون في ورثة نفوذ قوى الحزب الوطني في المؤسسات العامة والخاصة، وسيَهدئون جزءاً من الشارع العمالي الفقير المطالب بالمزيد من التغيير، كما سيغدون بهذا سنداً للمجلس العسكري وللقوى التي سوف تصعد نحو الطبقة الجديدة غير الواضحة المعالم الآن، ولكنها في سبيلها لترتيب صفوفها ووراثة الحزب الوطني، مع إضفاءِ تغييراتٍ جديدة كتطوير حكم القانون، ونشر ديمقراطية نسبية، لكن الصراعات الاجتماعية الأساسية لن تُحل، وسوف تُهاجم الملكيةُ العامةُ التي أوجدتها ثورة يوليو، وتعلو المُلكيات الخاصة لوسائل الإنتاج بدرجة كبيرة، وهذه كلها تتطلبُ شعارات وأفكاراً مذهبية سياسية – دينية، تحفظ لقوى الاستغلال الصاعدة مظلةً من التضامن الاجتماعي الزائف، بدأت من خطبة الشيخ يوسف القرضاوي في الميدان، وحدث بعد ذلك تصاعد سرقة الثورة من قبل الإدارات المختلفة، لكن إصرار المتظاهرين وانتشار عمليات التغيير في مختلف المؤسسات وقيام تظاهرة مليونية متحدية هذه السرقة، وضعتْ علامات استفهام على صراع القوى الاجتماعية السياسية في المرحلة القادمة.

في تونس حيث اليسار والقوى الديمقراطية التحديثية ذات نفوذ أقوى من مصر فشلت عملية استغلال الشارع لتحريف قضايا الجماهير المطلبية والمعيشية نحو قضايا الحجاب والخمور وغيرها.

إن القوى الدينية تجد نفسها بلا برامج عميقة تتطلبها الشعوب وتتعلق بقضيةِ القطاع العام المسروق ومسائل الأجور والتفاوتات الطبقية الرهيبة المتصاعدة، وحل العلاقات بين القطاعين العام والخاص وإمكانية ظهور مسئولين يعقدون علاقات متناسبة بينهما لا تدمر تراكمات التنمية والتحرر العربي، وكذلك يجذرون مسائل الديمقراطية في الحياة الاجتماعية التي تبدو تونس كذلك تتقدمُ فيها على مصر، ومن المعروف أن البلدين يتنافسان في نقلِ تجارب التغيير خلال هذه الأشهر الحاسمة من الثورة الديمقراطية الأكثر عمقاً من ثورات الانقلابات العسكرية السابقة.

ولكن القوى الدينية تريدُ نفوذاً بأي شكل، فتركزُ في وعي الحلال والحرام الذي مكانه المحاكم والقانون لا مشروع الثورات الداخلة في صميم الإنتاج والمعاش، وهي تستفيدُ من جذورِها ومن بقاءِ العلاقات الإقطاعية في الريف وفي السلطةِ والعائلة، فتستثمرُها وتحولها إلى مقاعد في البرلمان والمؤسسات السياسية وتجمد التطورَ وتؤسس طبقةً إقطاعية جديدة ذات شكل رأسمالي.

وقد ظهرت قوائم لدى بعض القوى الغربية لمقاتلين ليبيين اشتركوا مع إرهابيي العراق وخاصة من المنطقة الشرقية، وهم الآن ربما يوجدون في ليبيا، فلا شك أن حديث الحكومة الليبية عن القاعدة ليس كله كذباً. وسوف يلعب هؤلاء وغيرهم أدواراً خطرة في التطور السياسي القادم، مع وضوح البساطة السطحية لأفكار الحكومة الانتقالية، وغموض الدور الغربي.

وسوريا هي في العتبات الأولى لمرحلة التغيير ونرى ذاتَ الخطوط العريضة في تونس من دون أن يوجد فيها تجذرٌ عميقٌ لليسار والعمال كما في تونس ولا حضور الشباب التحديثي الديمقراطي كما في مصر، ولهذا فإن رحلتها طويلة وصعبة.
 
أخبار الخليج 5 أبريل 2011