المنشور

هل انتهت مغامرة القذافي؟


في الثاني عشر من سبتمبر/ أيلول من عام 2003 اتخذ مجلس الأمن الدولي قراراً قضى برفع العقوبات الدولية التي فرضها على ليبيا والتي استمرت لمدة أحد عشر عاماً بعد أن كان المجلس قد فرض عقوبات اقتصادية وعسكرية على ليبيا (قرار مجلس الأمن رقم 748 المؤرخ في 31 مارس 1992) إثر اتهامها بالمسؤولية عن تفجير طائرة ركاب أمريكية تابعة لشركة “بان أمريكان” أثناء تحليقها فوق قرية لوكيربي الاسكتلندية بتاريخ 12 ديسمبر 1988 . وكان الاتهام قد وُجه لشخصين من المخابرات الليبية هما الأمين خليفة فحيمة وعبدالباسط المقرحي، إلا أن القذافي رفض تسليم المتهمين إلى الولايات المتحدة (بلد منشأ شركة الطيران المالكة للطائرة المنكوبة ومعظم ركابها) أو بريطانيا (بلد سقوط الطائرة)، وأصر على محاكمتهما في ليبيا قبل أن يعود ويوافق عام 2000 على تسليمهما إلى محكمة هولندية شُكلت لهذا الغرض كجهة تحكيمية ثالثة محايدة اتفق عليها بين ليبيا والولايات المتحدة وبريطانيا، حيث برأت المحكمة ساحة المتهم فحيمة لعدم كفاية الأدلة وتناسقها، بينما دانت المقرحي بالضلوع في جريمة التفجير وحكمت عليه بقضاء 27 سنة في سجون اسكتلندا . وفي العام الماضي تم الإفراج عنه في صفقة مريبة بين بريطانيا ونظام القذافي حصلت بمقتضاها شركة “بريتش بتروليوم” على حقوق الاستكشاف والتنقيب عن النفط والغاز في القواطع البحرية الليبية الساحلية مقابل استخدام الشركة نفوذها على الحكومة البريطانية والأخيرة القضاء الاسكتلندي للقيام بإطلاق سراح المقرحي بدواعي إنسانية قيل إنها مرتبطة بإصابته بالسرطان وإنه لن يعيش أكثر من شهرين .

وكما هو معروف فإن موافقة مجلس الأمن الدولي بأغلبية 13 صوتاً على رفع العقوبات المفروضة على ليبيا جاءت بعد أن قام نظام القذافي بدفع تعويضات إلى عائلات ضحايا طائرة لوكيربي (270 شخصاً) بلغت قيمتها 2،7 مليار دولار، فيما امتنعت الولايات المتحدة عن التصويت وكذلك فعلت فرنسا التي أصرت على أن يستكمل نظام القذافي دفع بقية مبلغ التعويضات لعائلات ضحايا الطائرة المدنية الفرنسية “يو .بي .ايه” التي اتهم نظام القذافي بتفجيرها فوق النيجر في عام 1989 (أعلن الزعيم الليبي معمر القذافي في الذكرى 34 للانقلاب الذي أوصله إلى السلطة أن ليبيا توصلت لاتفاق مع فرنسا على تعويضات لذوي ضحايا إسقاط الطائرة الفرنسية بعد أن دانت محكمة فرنسية ستة ليبيين غيابياً بالمسؤولية عن التفجير الذي راح ضحيته 170 شخصاً) .

اليوم ولم تكد تمضي 8 سنوات على رفع العقوبات الدولية التي كانت فرضت عليها، عادت ليبيا من جديد لتقع تحت طائلة عقوبات مجلس الأمن الدولي بقرار يتجاوز هذه المرة العقوبات الاقتصادية إلى شن العمليات الحربية الجوية ضد كافة منشآتها العسكرية وشبه العسكرية، بل وحتى بنيتها الأساسية، من شبكة اتصالات وطرق وجسور ومرافق حيوية أخرى .

طوال الأربعين عاماً الماضية لم تعرف ليبيا استقراراً سياسياً ولا اقتصادياً ولا اجتماعياً متصلاً، فلم تكد تفيق من “صدمة” انعطافية حادة في الأحداث إلا وكانت على موعد جديد مع “بدعة” اهتزازية جديدة، وذلك في تداع عجيب وغريب الأطوار لتحولات الأحداث التي يحركها ويبادر إلى اتخاذها والآمر بإنفاذها قائد الثورة العقيد معمر القذافي . من ذلك على سبيل المثال لا الحصر ما خرج به في شهر إبريل/ نيسان 1973 في خطابه بمدينة زوارة من دعوة الليبيين (أو الجماهير الليبية حسب العقيد)، للسيطرة على السلطة وتقويض ما تراه غير صحيح، وأن تخلق وضعاً شعبياً جديداً ضمن ما أسماه الثورة الشعبية التي يجب أن تقوم “بتعطيل وإلغاء كل القوانين المعمول بها حتى الساعة (ساعة إلقاء خطابه)، وتطهير البلاد من المرضى سياسياً الذين يتآمرون على القضية الثورية وعلى الشعب وعلى التحول الثوري، وإعلان الثورة الإدارية، وتسليح الشعب، وأن الحرية للشعب ولا حرية لأعداء الشعب” .

وما أن انتهى العقيد من خطابه في ذلك اليوم حتى أمر بحرق الكتب الأجنبية والآلات الموسيقية في ساحات المدن الليبية على مرأى ومسمع من العالم، كما أمر بإلغاء مهنة المحاماة . . إلخ، من البدع الغريبة التي وجدت طريقها في ما بعد إلى الكتاب الذي وضعه لهذا الغرض وأسماه “الكتاب الأخضر”، والذي عدّه طريقاً ثالثاً بين الاشتراكية والرأسمالية .

هذا ليس كل شيء، فالعقيد الذي يصدر أوامره بشنق الليبيين المعارضين في رمضان هو نفسه مَنْ يخرج عليهم مستنكراً قيام “الليبيين بشنق بعضهم بعضاً في رمضان” .

وهو مَنْ كان أعلن وأمر في عام 1986 بإعطاء مبلغ 10 آلاف دولار لكل أسرة ليبية قبل أن يعود ليهدد الليبيين برفع الدولة مسؤوليتها عن خدمات الصحة والتعليم والخدمات الأخرى .

ومن الطبيعي أن يكون لهذه الفذلكات الرعناء أثمان باهظة ترقى إلى مستوى الكوارث الوطنية، وذلك على النحو الذي رأيناه في التعويضات المالية الضخمة التي دفعها نظام القذافي من أموال الشعب الليبي لذوي ضحايا طائرة بان أمريكان التي ناهزت الثلاثة مليارات دولار، بخلاف التعويضات التي دفعها النظام الليبي لعلائلات ضحايا الطائرة الفرنسية التي اتهم نظام القذافي بتفجيرها فوق النيجر في عام 1989 .

أما الخسائر التي ألحقتها سياسات العقيد بالاقتصاد الليبي وبالمواطن الليبي من جراء الحصار الدولي الذي فرض على ليبيا، والذي امتد لأحد عشر عاماً، فإنها أكبر بكثير من كل التقديرات المتواضعة للأرقام الصماء التي لا تستطيع قياس الفرص التنموية الضائعة التي ترتبت على ذلكم الحصار .

ولأن الكوارث تجر الكوارث، فقد كان من شبه المحتم أن يكون مآل مغامرة القذافي في الاستيلاء على السلطة والتفرد بها لأكثر من 40 عاماً مآلاً كارثياً بكل معنى الكلمة . فالبلاد الليبية اليوم ممزقة بين حرب أهلية على الأرض وتدخلات دولية بالجملة .

ومع ذلك، وكي تكتمل فصول المغامرة المأساوية فإن القذافي مازال مصرّاً على أن الشعب الليبي يحبه ويموت فيه! وإزاء هذا المشهد الحزين لا يملك المرء سوى القول يا لعبودية السلطة! ونعم صدق مَنْ قال “ومن الحب ما قتل” .

 

حرر في 1 ابريل 2011